لا أعرف ما هو قدر السياسة مقابل قدر المهنية الإعلامية الذي أدى في النهاية إلى التعامل باستخفاف أو بإهمال مع إطلاق موسكو قبل أيام صاروخا استراتيجيا جديدا عابرا للقارات قادراً على اختراق الدروع الصاروخية التي تسعى الولايات المتحدة أخيراً إلى نشرها في شرق أوروبا. تطور إما لم يبرزه إعلامنا العربي بدرجة كافية أو أهمله من الأساس مع أنه مؤشر مؤكد على تلبد الغيوم أخيراً، وبدرجة غير مسبوقة منذ سنوات طويلة في سماء العلاقات الروسية - الأميركية وبالتبعية علاقات أوروبا مع الطرفين.

بدأت المسألة اساساً بتوجه أميركا إلى نشر عشر أنظمة جديدة للدفاع الصاروخي في بولندا ونظام راداري مكمل في جمهورية تشيكيا، ومن دون أي تشاور مسبق، لا مع روسيا ولا حتى مع حلفاء أميركا الآخرين في منظمة حلف شمال الأطلسي. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اختار الاحتجاج علناً ضد هذا التطور الأميركي في اجتماع للأمن الأوروبي منذ أسابيع وسايرته دول أوروبية أخرى بدرجة أقل، من بينها ألمانيا. واختارت أميركا الاتفاق الثنائي مباشرة مع كل من بولندا وتشيكيا بما يعني استبعاد حلف شمال الأطلسي كله من المشروع.

الرد الروسي المبدئي لم يتأخر وقد بدأ منذ الثلثاء الماضي بالإعلان عن تجربة الصاروخ الاستراتيجي الروسي الجديد عابر القارات، وصاحبه تحذير متجدد من الرئيس بوتين بأن نشر النظام الصاروخي الأميركي الجديد في شرق أوروبا سيحول قارة أوروبا كلها إلى «برميل بارود» مهاجما منتقدي رد فعل الكرملين قائلا: «يجب ألا نتكلم وكأننا نتعامل مع شركاء أنقياء ولطفاء ونزيهين (الأميركيين) من جهة، ووحش انطلق لتوه من الغابات وله مخالب وقرون (روسيا) من جهة أخرى». رد الفعل الروسي المتصاعد هذا جاء بعد زيارة قامت بها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس إلى موسكو. ومع أنها طالبت بتهدئة حدة الانتقادات الروسية العلنية إلا أنها أعلنت - وهي في موسكو أيضاً - أن أميركا ستمضي في نشر نظامها الصاروخي في بولندا وتشيكيا سواء قبلت موسكو بذلك أو رفضته.

الحجة الأميركية المعلنة والمتكررة هي أن هذا النظام الصاروخي الأميركي الجديد في شرق أوروبا ليس موجها ضد روسيا وإنما تحسبا لتهديد محتمل من صواريخ قد تنطلق مستقبلا من كوريا الشمالية أو من إيران. الخبراء المتخصصون رفضوا هذا الادعاء قائلين إن كوريا الشمالية لا تملك أصلا القدرة على ضرب أميركا صاروخيا عن طريق أوروبا. أما إيران فلا تملك أساسا التكنولوجيا التي تهدد بها قارة أوروبا، بينما أميركا نفسها بوجودها العسكري المباشر المحاصر لإيران امتدادا من أفغانستان إلى تركيا والعراق وكل دول الخليج قادرة عسكريا على سحق إيران في أي وقت بما يجعل أميركا هي الخطر الأكبر على إيران أكثر بكثير من العكس.

في الواقع إن انتحال إيران أو كوريا الشمالية هنا كحجة أميركية مستجدة يبدو تلفيقا متأخرا. فمن اللحظة الأولى لمجيء جورج بوش وإدارته إلى السلطة في كانون الثاني (يناير) 2001 بدت النيات واضحة لمن يريد أن يرى. وفي 1-5-2001 ألقى جورج بوش خطاباً لافتاً أعلن فيه صراحة: «إن علينا أن نتحرك متجاوزين القيود التي تنص عليها معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ» المبرمة مع موسكو السوفياتية في 1972، معبرا بوضوح عن التزامه بنشر الدفاع الصاروخي الجديد بسرعة بما يعني عمليا قرارا أميركيا منفردا بالخروج من المعاهدة السابقة مع موسكو السوفياتية.

ذلك التطور المفاجئ جعل بعض الصحف الأميركية - حتى القريبة من الإدارة كـ «واشنطن بوست» مثلا - تحذر صراحة من أن: «برنامج الدفاع الصاروخي الأميركي هذا يجعل العالم أقل أمناً، وليس أكثر أمناً، وبدل أن يخفض التوتر فإنه سيزيد من التوتر بين أميركا وحلفائها وكذلك مع خصومها المحتملين مثل روسيا والصين. إن الحلفاء، خصوصا في أوروبا، يرتابون في أن الولايات المتحدة ستستخدم الدرع الصاروخي كبديل عن المعاهدات والتحالفات المتعددة الأطراف، بينما الصين وروسيا تخشيان من السعي الأميركي لتحقيق ميزة استراتيجية حاسمة».

نيات وبرامج هذه الإدارة الأميركية كانت إذن واضحة منذ أيامها الأولى في ولايتها الأولى. وفي حينه لم يكن هناك حديث عن أي خطر نووي أو غير نووي من إيران أو كوريا الشمالية. كانت هناك فقط الحملات الأميركية المعتادة ضد كل منهما لأسباب مختلفة. كما أن أحداث 11/9/2001 لم تكن قد جرت بعد. بوقوع تلك الأحداث الصاعقة تعاطف العالم كله مع الشعب الأميركي، ولخصت جريدة «لوموند» الفرنسية وقتها تلك المشاعر العالمية بعنوانها الرئيسي في الصفحة الأولى «اليوم كلنا أميركيون». أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فكان أول القادة الأجانب - حتى من قبل توني بلير رئيس وزراء بريطانيا والتابع المخلص لأميركا - الذي اتصل بجورج بوش تليفونيا معبرا له عن دعمه ومساندته. وحينما اختار الأخير الانتقام لأميركا بغزو أفغانستان كانت روسيا تحديدا هي التي سهلت له الحصول على قواعد عسكرية موقتة في محيطها القريب من دول آسيا الوسطى.

لكن في المقابل لم تكن تلك مشاعر دقيقة، فقد قال مسؤولون أميركيون وقتها: «نحن استخدمنا المعلومات الاسخباراتية الروسية في أفغانستان. لكننا لم نكن نريد أن نجعلهم قريبين أكثر من اللازم مما نفعله هناك فعلاً». بل حتى لم تفكر إدارة جورج بوش في إلغاء العقوبات المقررة ضد روسيا في قانون «جاكسون/ فانيك» والقائمة منذ 1975 بحجة أنها في حينه لم تكن تأخذ باقتصاد السوق كما أنها كانت تضع قيودا صارمة على هجرة مواطنيها اليهود إلى إسرائيل.

الأكثر أهمية هنا هو أن الاتحاد السوفياتي انسحب عسكريا وسياسيا من أوروبا الشرقية، ووافق على توحيد ألمانيا، وقام بتفكيك حلف وارسو، وبعدها تفكك هو ذاته إلى خمس عشرة دولة مستقلة. وقتها كان منطقيا أن تنسحب أميركا عسكريا من أوروبا الغربية وتقوم بتفكيك حلف شمال الأطلسي، الذي قام أساسا تحت عنوان عريض هو الدفاع الجماعي بقيادة أميركية ضد احتمال توسع سوفياتي/ شيوعي محتمل للاستيلاء على أوروبا الغربية. فإذا كانت الشيوعية سقطت والاتحاد السوفياتي تبخر تكون مهمة الحلف قد انتهت ايضاً. وبعيدا عن النصوص المكتوبة، كان السائد قولا هو أن الهدف الحقيقي من الحلف الاطلسي هو «إدخال أميركا في أوروبا، وإخراج الاتحاد السوفياتي من أوروبا، وإبقاء ألمانيا في أسفل أوروبا».

ما جرى بعد 1991 كان تغييرا جذريا في تلك المعادلة. خرج الاتحاد السوفياتي من المعادلة ثم تبخر هو ذاته. أميركا بقيت بل توسعت. ألمانيا صعدت من أسفل إلى أعلى وضد رغبات حلفاء أميركا الأقرب - رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر وكذلك رئيس فرنسا وقتها فرانسوا ميتران، وكل منهما لأسباب مختلفة، كان متخوفاً من هذا التوجه الأميركي. لكن أميركا في حينه ألزمتهما بالانصياع الكامل، فاللعبة الاستراتيجية الكبرى أكبر من أيهما منفردا ولا تقودها سوى أميركا.

ما فعلته أميركا تاليا كان مختلفا. لقد قررت توسيع حلف شمال الأطلسي شرقا ليلامس حدود روسيا ذاتها، مقررة أن تنضم إلى عضويته دول كانت سابقا أعضاء في حلف وارسو وتم تعديل معاهدة الحلف لتوسع مهامه إلى خارج نطاقه الجغرافي بدءا بوجود 37 ألفا من جنوده حاليا في أفغانستان تحت القيادة الأميركية. وأصبحت وزيرة خارجية أميركا تقول، من موسكو، إن استقلال كوسوفو واقامة النظم الصاروخية الأميركية في شرق أوروبا سيتمان، سواء أحبت موسكو ذلك أو كرهته. بعدها بأيام قارن الرئيس فلاديمير بوتين بين الولايات المتحدة و «الرايخ» الثالث النازي، وهو تشبيه بالغ الأذى في الوعي الوطني الروسي حيث سقط لروسيا السوفياتية في مواجهة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية أكثر من عشرين مليون قتيل.

أدركت روسيا إذن (ومعها الصين أيضا) أنها المستهدفة من الانتشار الصاروخي الأميركي الجديد في شرق أوروبا (وربما تايوان في مرحلة تالية) وأن الادعاء بأن الهدف هو الحماية من صواريخ إيران وكوريا الشمالية هو حجة ملفقة بالكامل، وأن هدف المحافظين الجدد في أميركا هو عسكرة الفضاء بمثل ما نجح جيل سابق منهم في «عسكرة الحرب الباردة». هذا التعبير الأخير كان أول من استخدمه في مطلع الخمسينات هو الديبلوماسي الأميركي الراحل جورج كينان، الذي كان أول من طرح سياسة «الاحتواء» ضد الاتحاد السوفياتي منذ سنة 1947. في حينه ارتاع كينان من أن المجمع الصناعي - العسكري في بلاده اختطف ذلك الشعار ليفرض على الاتحاد السوفياتي وعلى العالم سباقا للتسلح باهظ الكلفة، بما جعل المؤسسة الحاكمة في النهاية ترغم جورج كينان على الاستقالة من منصبه كمدير للتخطيط السياسي في وزارة الخارجية فيستمر في التقاعد من وقتها حتى رحيله عام 2005 عن عمر 101 سنة.

جورج كينان كان يؤمن أيضا بفكرتين أساسيتين، أولا: إن من الممكن التفاوض مع الاتحاد السوفياتي على الخروج سلميا من ألمانيا (الشرقية) وشرق أوروبا، فقط إذا كان المقابل هو خروج عسكري أميركي مماثل من أوروبا الغربية. ولأن المؤسسة الأميركية رفضت ذلك فقد تأخر هذا الخروج السوفياتي ثلاثين سنة كاملة. ثانيا: كان كينان يؤمن أيضا أن العقيدة الماركسية الحاكمة ستستنفد طاقتها الدافعة بحكم التطورات التكنولوجية المتسارعة، وهو ما سيؤدي حتما إلى عودة موسكو لتصبح عاصمة لدولة بدل كونها عاصمة لعقيدة أيديولوجية. أما حينما تفكك الاتحاد السوفياتي ذاته في 1991 فكان تعليق جورج كينان هو: إن هذا أشبه بفوزنا بورقة يانصيب غير متوقعة، وهو فوز يرجع الفضل فيه إلى ميخائيل غورباتشوف وبطانته الحاكمة أكثر من أي تطور آخر.

حينما انتهت الحرب الباردة استبشر العالم خيرا متوقعا تخفيضا جذريا في الميزانيات العسكرية للدول الكبرى لصالح تنمية شعوبها وشعوب العالم في ما سمي «غنيمة السلام». لكن ما جرى في السنوات الأخيرة كان العكس تماما من جانب أميركا. وبعد سلام الحرب الباردة القائم على الردع المتبادل وتوازن القوى أصبحنا نتابع أخيراً «عسكرة السلام» من جانب القوة العظمى الوحيدة المتبقية.

على امتداد التاريخ كله كان تفرد دولة واحدة بعرش القوة عالميا نذيرا بالخطر وليس مدعاة للطمأنينة. أما الوجه الآخر لنفس الحقيقة فهو أن الانفراد بعرش القوة هو ضد الطبيعة والتاريخ. فالأمن المطلق لدولة واحدة يعني بالقدر ذاته عدم الأمن المطلق لباقي الدول.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)