في هذه الأيام، ومع ذكرى مرور أربعين عاماً على حرب الخامس من يونيو عام 1967 تعود ذاكرة الكثيرين في البلدان العربية والإسلامية، وربما في بقاع أخرى من العالم، إلى المواجهات الأولى للصراع الذي اندلع بين القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وبين الطامحين بالحرية الذين رفعوا رايات التحرر من الاستغلال والهيمنة التي مارستها عليهم بعض الدول المنتصرة في هذه الحرب.

كان هنالك من يريد أن يؤكد أن الشعوب تستطيع أن تقاوم سياسات الهيمنة والسيطرة على العالم من قبل القوى التي تأتلف في حلف مصالح، وأنها تستطيع أن ترفع الصوت العالي محتجة ومطالبة بحقوقها وتذهب إلى أبعد من ذلك في سبيل تحقيق مصالحها. كان هنالك من يريد أن يؤكد على أن التحرر من الأغلال أمر ممكن طالما توفرت الإرادة والعزيمة لذلك، فالإرادة الحرة هي التي تخلق الأمم الجديرة بالحياة الكريمة بالرغم من كل الظروف المحيطة. فالحرية هي الحلم الأول للإنسان في كل زمان ومكان، وأن ذلك الإنسان القادم من أعماق الريف قادر على تحدي ذلك القادم من المدن الحديثة.

كانت المواجهة الأولى في عام 1956، حين تعرضت مصر لعدوان ثلاثي لإجهاض مشروعها التحريري الذي صاغه إنسان قادم من أعماق الريف المصري حاملاً معه طموحات جيله في التغيير وصناعة مستقبل مزدهر، مقارعاً الذين قدموا من المدن الأوروبية المتطورة للإبقاء على النسيج القاسي الذي أسروا فيه إرادات الشعوب وصادروا طموحاتها لفترة تزيد على القرن.

اشتركت في العدوان كل من بريطانيا و وفرنسا إضافة إلى تلك الدولة التي بدأت تبحث عن دور لها في السياسة الدولية، وأقصد بها «إسرائيل» التي كانت ترى بذور جمهورية جديدة حرة قوية على حدودها بمثابة تهديد جدي لوجودها وكيانها مما دفعها للتحالف مع الدولتين اللتين فقدتا السيطرة على أهم ممر استراتيجي مائي في العالم، وهو قناة السويس التي قامت مصر بتأميمها في العام نفسه الذي تعرضت فيه للعدوان.

لم تستطع القوى الاستعمارية التي رسمت خرائط الشرق الأوسط تحمل أو تقبل تحديات بلد صغير مثل مصر وسياسات قائد شاب جاء من وسط الفلاحين وأشعل لهيباً امتد ولمدة أكثر من عقد من الزمن في طول وعرض العالم العربي. إلا أن آلتها العسكرية المتطورة قد فشلت في تحقيق أهداف ذلك العدوان الآثم وخرجت مصر ومعها العالم العربي وشعوب العالم الثالث مكللين بالنصر، وخرج الزعيم جمال عبد الناصر من تلك التجربة وهو يحمل على كتفيه مشروعاً عربياً قومياً مؤرقاً للقوى التي بدأت تفقد نفوذها في المنطقة العربية.

كانت التجربة التي خاضتها مصر في مقاومة العدوان الثلاثي والتعاطف والتضامن الدولي الذي حصلت عليه مقدمة لمساهمة أكثر أهمية وفاعلية في حركة التحرر العالمي، فقد أصبحت حركة عدم الانحياز، المكونة من الدول التي حصلت على استقلالها، والرئيس عبد الناصر أحد مؤسسيها، قوة دولية يحسب حسابها في السياسة العالمية.

إلا أن الظروف الداخلية والدولية بعد عقد من الزمن قد تغيرت، وكان للانتصارات التي تحققت، والمواقع التي شغلتها حركات التحرر في الوطن العربي أن تواجه خلال العقد الذي تلا سياسات جديدة مخططا لها بعناية فائقة من قبل القوى التي خسرت بعض المواقع في الوطن العربي والتي تحرص على استرجاع بعض الهيبة التي فقدتها، فكانت حرب الخامس من يونيو عام 1967 التي كشفت للعالم العربي قبل غيره قدراته الضعيفة في التخطيط وفي الإعلام وفي رسم السياسات التعبوية.

فالتجربة المستقاة من العدوان الثلاثي لم تكن كافية لمواجهة ما خطط لمصر وللمشروع القومي النهضوي في العالم العربي، خاصة بعد أن دخلت الولايات المتحدة على الخط الذي كانت غائبة عنه في عام 1956، وهي الدولة التي لها حساباتها الخاصة في الصراع الدولي مع الاتحاد السوفييتي تتجاوز الحسابات التي تحدد وترسم سياسات بريطانيا وفرنسا.

لقد عاد استراتيجيو الغرب إلى مراجعة كتب التاريخ، وقدروا بدقة عظمة الشرق القديم والدور الذي يمكن أن يلعبه هذا الشرق في السياسة الدولية، إذا قدر له النهوض من كبوته الطويلة، فنهوضه سيكون بداية مرحلة جديدة في العالم ليست في صالح مخططاتهم وسياساتهم الاستغلالية، فهل يسمحون لدولة في الشرق الذي يمتلك معظم المخزون العالمي من مصادر الطاقة أن تستكمل مشروع النهوض به؟

وإذا لم تكن معالم مستقبل المنطقة العربية واضحة بشكل كاف في أذهان مخططي السياسات الاستعمارية، إلا أن أبرز أهدافهم كان في منتهى الوضوح، وهو منع المارد العربي من الاستيقاظ، مستغلين لأجل ذلك جميع قدراتهم وتجاربهم ومستفيدين كذلك، وهو أمر في غاية الأهمية، من أخطاء الممارسات التي تتم في سياقات المشروع القومي العربي وزعيمه الرئيس عبد الناصر، وأبرزها ضعف القيادات وعدم ارتقاء قدراتها إلى المستوى المؤهل لمواجهات من النوع الذي كان عليها أن تواجهه، وقلة الخبرات وسيطرة الروح الفردية في صناعة القرارات وسوء أداء المؤسسة الإعلامية التي كانت ترسم للقيادات وللجمهور سيناريوهات بعيدة عن الواقع عززت من مشاعر اليأس والإحباط وضاعفت من تأثيرات هزيمة حرب الخامس من يونيو.

ففي الوقت الذي كانت أبشع العمليات العسكرية القذرة تنفذ في ساحات المعارك ضد الجيوش العربية التي شهدت استخدام الأسلحة المحرمة دولياً مثل قنابل النابالم، وفي الوقت الذي دُمرت فيه أسراب الطائرات المقاتلة المصرية قبل إقلاعها، كان الإعلام يتحدث عن انتصارات وهمية خدرت الشارع العربي ورسمت له صورة وردية سرعان ما تحول لونها إلى السواد بعد أن تجلت الصورة وتعرف الجمهور على هول الكارثة التي ألمت بالعالم العربي، وبعد أن أحس الفلسطيني بأنه قد فقد كل أرضه وأن إسرائيل قد هزمت ثلاثة جيوش عربية واحتلت في ستة أيام أكثر من ثلاثة أضعاف مساحتها.

لا نزال بعد مرور أربعين سنة على حرب السادس من يونيو نتجرع مرارة تلك التجربة القاسية والهزيمة المخزية التي أحاقت بالعالم العربي، نتجرعها في رؤية المشاهد اليومية المؤلمة التي تنقلها وسائل الإعلام عما يجري في الضفة الغربية وفي غزة من انتهاكات لكرامة الإنسان العربي، ولا نزال غير متعظين بفصولها، فالمساحات المحتلة من الأرض العربية قد تضاعفت بعد احتلال العراق.

كم هو مؤلم أن نرى أن العاطفة لا تزال تحكم الكثير من مساحات وعينا، وكم هو مؤلم أن نرى أن هذه المناسبة قد مرت أربعين مرة حتى الآن، ونحن لا نزال غير قادرين على استرجاع الأراضي التي احتلت، وغير قادرين على استرجاع الحقوق التي اغتصبت، وغير قادرين على رد الاعتبار للكرامات التي أهدرت.

في مناسبات كهذه وأمام أحداث صنعت تاريخاً لم نستفد كثيراً من تجربته، ليس أمامنا إلا أن نطأطئ رؤوسنا انتظاراً لحكم يصدره التاريخ بحق أمتنا.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)