الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام حول وفاة أحد معتقلي غوانتانامو الأسبوع الماضي، يثير من جديد المسؤولية القانونية الدولية التي تطوق عنق الإدارة الأميركية بسبب إصرارها على إبقاء هذا المعتقل خارج القوانين الدولية.

وسواء كانت وفاة المعتقل الشاب نتيجة تعذيب كما يتهم أقاربه، أم نتيجة انتحار كما يزعم الجيش الأميركي، فإن الإدارة الأميركية تتحمل المسؤولية القانونية عن وفاة المعتقل السعودي بصفتها جريمة جنائية لا يجوز الإفلات منها. كما أن وزارة الدفاع الأميركية مطالبة بعمل تحقيق كامل لمعرفة حقيقة ملابسات هذه الحادثة، وهو الأمر الذي لم تُبدِ السلطات الأميركية أي اكتراث به.

ذلك أنه في حال صدق اتهامات ذوي المعتقل في أن وفاته جاءت نتيجة التعذيب - وهو أمر يمكن أن يتم التثبت منه عن طريق تشريح الجثة - فإن الجيش الأميركي مسؤول مسؤولية جنائية كاملة عن هذا الإجراء المخالف لجميع القوانين الدولية والداخلية. وإذا كانت وفاة المعتقل نتيجة انتحار كما جاء في تقرير الجيش الأميركي، فإن هذا الجيش مسؤول مرةً أخرى عن الأسباب التي جعلت المعتقل يعمد لقتل نفسه في حال هي الرابعة من نوعها حتى الآن. إذ إن تكرار هذا الحدث يشير الى حالة الإحباط التي وصل إليها المعتقلون «الأبرياء» بحسب تقارير منظمات حقوق الإنسان».

بيد أن هذا الخبر يثير تساؤلات حول واجبات الدول الإسلامية التي ينتمي إليها معظم المعتقلين، في ما يمكن أن تقوم به لحماية وإنقاذ رعاياها الذين لم تصدر بحق معظمهم مجرد اتهامات - فضلاً عن إدانات - على رغم مرور أكثر من خمس سنوات على اعتقالهم، وعلى رغم انتهاك هذا المعتقل لجميع الأعراف والقوانين الدولية. فمعتقل غوانتانامو الذي أنشئ بإشراف مباشر من وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد، جاء مخالفاً لاتفاقية جنيف الثالثة 1949، إذ ارتكبت الإدارة الأميركية مغالطة قانونية دولية بزعمها أن هؤلاء الأسرى ليسوا مقاتلين في صفوف الحكومة الأفغانية رسمياً، ومن ثم رفضت إعطاءهم حقوق «أسرى الحرب» المنصوص عليها في اتفاقية جنيف المذكورة، وعرضتهم لأصناف التعذيب.

وغنيٌ عن القول أن رفض الولايات المتحدة تصنيف هؤلاء المعتقلين كـ «أسرى حرب» ورفض إعطائهم حقوقهم القانونية الدولية، قد زاد من تورط الحكومة الأميركية. إذ إن هؤلاء المقبوض عليهم - الذين كانوا محاربين متطوعين مع الحكومة الأفغانية - ينطبق عليهم ما ينطبق على أسرى الحرب كما أبانت ذلك المادة 4 (2) من اتفاقية جنيف السابقة الذكر. وأن رفض إعطاء هؤلاء المقاتلين تصنيف «أسرى حرب» قد يجعلهم مختطفين، وهو أمر أحسب أن محامي إدارة الرئيس بوش غير مستعدين لقبوله.

إلا إن إدارة بوش وقعت في مخالفة فاضحة حين استثنت المواطن الأميركي جون ووكر - الذي أسر مع مقاتلي «القاعدة» في أفغانستان- من اعتقاله في غوانتانامو، من دون تبرير قانوني لهذا التمييز العنصري. وبذلك يتضح للدول المسلمة قيمة رعاياها مقارنةً برعايا الولايات المتحدة في نظر الإدارة الأميركية، حين يشتركون في الجرم نفسه.

وحريٌ القول إن الزعم الأميركي بعدم إعطاء المعتقلين وضع «أسرى حرب» لا يعفي الولايات المتحدة من الانتهاكات القانونية الدولية تجاه هؤلاء المعتقلين، الذين يظل وضعهم في نظر القانون الدولي «أسرى حرب». وقد شملت التجاوزات القانونية الدولية للولايات المتحدة في هذا الخضم، إساءة معاملة المعتقلين وإهانتهم جسدياً ونفسياً، وهو الأمر المخالف للمادة الـ13 من الاتفاقية المذكورة التي تنص على أن «يعامل جميع الأسرى وفي كل الأوقات معاملة إنسانية كريمة، وألا يتعرضوا إلى أي إهانة من جانب القوات المحتلة، وأن أي إهانة جسدية أو نفسية في حقهم تعتبر خرقاً جاداً لهذه الاتفاقية».

وبحسب شهادات المسؤولين الأميركين أنفسهم، فقد ذكرت تقارير أن التعذيب في غوانتانامو شمل تجريد المعتقلين من جميع ملابسهم وتقييد أيديهم وأقدامهم بمسامير مثبتة في الأرض واجبارهم على التعرض لأضواء مبهرة وموسيقى صاخبة، وفي الوقت نفسه تشغل مكيفات الهواء على أعلى مستوياتها لفترات تصل إلى أربع عشرة ساعة. كما نسبت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى جنود في قاعدة غوانتانامو أن «المعتقلين يتعرضون بشكل منتظم لمعاملة سيئة، وانتهاكات جنسية لفترات طويلة». وقد التقت شهادات من أفرج عنهم ومن أدلى باعترافات من الجنود الذين شاركوا في تعذيب المعتقلين في غوانتانامو على الحديث عن وحشيتها وعدم إنسانيتها.

ووصف مسؤول دولي وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد بأنه «مهندس تعذيب من طراز عال». ووصف محقق من وكالة الاستخبارات المركزية زار معتقل غوانتانامو خلال صيف 2002 الانتهاكات القانونية في المعتقل بأنها «جرائم حرب». وليس ببعيد عن الذاكرة، ما جاء في وثيقة مكتب التحقيقات الفيدرالي في شهر آذار (مارس) من العام الماضي، من الاعتراف بتدنيس القرآن الكريم بوضعه في المرحاض، وركله والتبول عليه.

وعلى رغم أن قوانين الولايات المتحدة تنص على أنه لا يجوز اللجوء إلى المحاكم العسكرية إلا في حالة قيام حرب يكون من نتيجتها أن تغلق جميع المحاكم المدنية، فقد أقرت إدارة بوش محاكمات عسكرية لبعض معتقلي غوانتانامو، من المقرر أن يقدم إليها اثنان من المتهمين هذا الأسبوع.

هذا، ويأتي لجوء إدارة بوش إلى المحاكم العسكرية - على رغم مخالفتها لمعاهدة جنيف الثالثة 1949 - لتحقق منها هدفين. الأول هو ضمان سرية المحاكمات وعدم إفشاء أسرارها، إذ أن المحاكم العسكرية الأميركية لا تكون مفتوحة للإعلام. الأمر الآخر هو أن المحاكم العسكرية لا تعطي المحكوم عليهم حق الاستئناف. وهذا من الأهمية بمكان لواشنطن إذ أنها تريد أن تنهي هذه المحاكمات الى غير رجعة.

تأتي كل هذه الانتهاكات القانونية الدولية لتكون وصمة عار في جبين الولايات المتحدة. من أجل ذلك، أدانت شخصيات أميركية وغير أميركية وجود هذا المعتقل وطالبت إدارة الرئيس بوش بإغلاقه. وقد طالب كل من الرئيسين السابقين جيمي كارتر وبيل كلنتون بإغلاقه فوراً، كما طالبت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، ورئيس وزراء إيطاليا، والأمين العام السابق للأمم المتحدة، ولجنة العفو الدولية وطالب تقرير لخبراء حقوق الإنسان بإغلاقه أيضاً. كذلك، انضم إلى انتقاد المعتقل «الشاذ» وطالب بوضع نهاية له رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، وهو الصديق المؤتمن لإدارة بوش. كما شملت قائمة المطالبين بإغلاق المعتقل، عدداً من أعضاء الكونغرس الأميركي بشقيه مجلس النواب ومجلس الشيوخ ومن كلا الحزبين، إلا إن إدارة بوش لا تزال ترى بقاء هذا المعتقل على رغم مخالفاته الصارخة لمعاهدة جنيف الثالثة 1949.

بيد أنه من اللافت والمؤسف، أنه ليس بين هذه النداءات كلها صوت عربي أو إسلامي رسمي واحد. على انه ليس ثمة ما يفسر تأخر الحكومات العربية والإسلامية التي ينتمي إليها جل المعتقلين في غوانتانامو في المطالبة الرسمية بإغلاق هذا المعتقل السيئ الصيت. ولعله باتت واضحة اليوم حاجة الحكومات المسلمة إلى الوقوف إلى جانب رعاياها، ورفع صوتها عالياً في وجه التعنت الأميركي.

ولأجل ذلك، فإن المطلوب اليوم من الأمة العربية والمسلمة التي طال صمتها في وقت تكلم فيه الجميع، هو أن تتحرك الحكومات العربية والمسلمة رسمياً لنصرة أبنائها المعتقلين في غوانتانامو، وأن تطلب هذه الحكومات من إدارة الرئيس بوش رسمياً إغلاق هذا المعتقل المشين لهم وللعالم أجمع. كما أنه من المفيد أن تسمح هذه الحكومات لسلطاتها القضائية بالنظر في قضايا ترفع ضد الحكومة الأميركية ومقاضاتها داخلياً على جرائمها القانونية الدولية، لأن في ذلك سابقة قانونية دولية مفيدة.

كما لا بد من تنشيط المنظمات الدولية والإقليمية كرابطة العالم الإسلامي ومنظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية، لإنهاء هذه المأساة المحرمة حسب كل شرائع وقوانين وأعراف العالم. ولعله من المفيد اللجوء الى الجمعية العامة في الأمم المتحدة لإدانة هذا المعتقل لتعذر الحصول على هذه الادانة في مجلس الأمن.

ومع هذا وذاك، لا بد للشعوب العربية والمسلمة أن تتحرك تلقائياً للمطالبة كتابةً عبر الرسائل الإلكترونية وبرامج الفضائيات والخطابات الموقعة فردياً وجماعياً لإسماع الصوت الخافت الذي لا يجوز له أن يبقى كذلك. في هذا الخصوص، ينبغي التأكيد على الدور الذي يمكن أن يلعبه الإعلام الرسمي وغير الرسمي في فضح انتهاكات الإدارة الأميركية للقوانين والأعراف الدولية.

تأتي أهمية هذه الخطوات الثلاث ليس لزيادة الضغط على الإدارة الأميركية فحسب، ولكن أيضاً لإيصال رسالة للمعتقلين بأن حكوماتهم - وإن أخطأ هؤلاء المعتقلون في حقها - إلا إنها لم تنسهم. ومن يدري فربما تدرأ هذه الخطوات محاولات انتحار مستقبلية في هذا المعتقل لمجرد شعور المعتقلين بأن حكوماتهم وشعوبهم تقف معهم.

فقد عبر عن هذا الشعور أحد المعتقلين الذي حاول الانتحار ثم أطلق سراحه في ما بعد، حين قال إن الانتحار «هو الوسيلة الوحيدة لإسماع نداء المعتقلين إلى العالم الخارجي ليعيد النظر في قيمه، وإلى المنصفين في أميركا ليقفوا لحظة حقيقة مع أنفسهم».

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)