«حين سأل أحدهم قيادي في حزب الفضيلة عن الصراع الدائر في العراق بين الاحتلال الانغلوسكسوني والنفوذ الايراني وما هو دور حزب الفضيلة في ذلك؟ كان الجواب إنه النفط! واستدرك قائلاً الآن: لا يوجد نفط بدون الفضيلة ولا توجد الفضيلة بدون نفط!».
في نقده اللاذع للشريط السينمائي «حياة الآخرين» والذي يتناول الوضع الانساني تحت حكم «ستاسي» المخابرات الالمانية الديموقراطية، يشير سلافوي جيجك إلى إيقونة «الكذبة النبيلة» وهي من معتقدات منظر المحافظين الجدد ليو ستراوس، والتي بدورها تؤدي إلى نوع فج من أخلاقية «الدفاع عن الأوهام». تشريحه الفضائحي لهذه المنظومة الفكرية البائسة، يؤكد ايضاً مرة ثانية وفي تشريح الجانب الثاني من «المعضلة» أي النظام الرأسمالي السائد! فالمنظر النمساوي جوزف شومبيتير كان يعتقد جازماً أن الرأسمالية في صلبها تتضمن التدمير الخلاق وهذا بالنسبة للمحللين الآن لم يعد بدعة نظرية مرفوضة. إن آلية التناوب بين الهزيمة التعبوية من جهة والتدمير السوقي من الجانب الآخر شاهد لا يمل على النزعة البنيوية لدى النظام الرأسمالي في التدمير الخلاق. والتجربة العراقية المعاصرة في الحرب والاحتلال، طقس ذليل في عبادة هذه الأيقونة التاريخية المتسلطة. وهي تتضمن: 1/ منع الدولة وتهديمها 2/ قطع المشروع العربي عمودياً وأفقياً، بما يعني المنع الاستراتيجي للثورة العربية الحديثة. 3/ التقسيم العمودي والأفقي للمكونات العربية ـ الإسلامية. 4/ تجنيد سياسي ـ عسكري ـ ثقافي للأقليات المتعايشة في المنطقة وتأزيم وجودها الحياتي ودفعها للخروج من حالة الانخراط مع «العام» المرتبط بالمشروع التاريخي والدخول إلى «الخاص» الذي هو ليس تأكيداً للهوية الذاتية بل اندماجاً مع «الجيش البريتيوري العالمي وجعلها جزءاً من الاحتياط العسكري الاستراتيجي والمتمثل في حركات «التطوع» و«الميليشيات» «والمرتزقة» والشركات الأمنية الخاصة. 5/ تفجير الوضع المذهبي الطبيعي تاريخياً وتحويله إلى احتقان طائفي بسيط وطوائفي عرقي مركب وذلك لتحقيق غرضين، الأول منع الوحدة الميدانية في مقارعة الاحتلال والثاني وضع الأسس اللازمة للحرب المقبلة مع ايران واستكمال المشروع النهائي للتدمير السوقي. ولقد كان للخلاف الصيني- السوفياتي سابقاً، مدخلاً مهماً لنضج الحالة الاستراتيجية الاميركية، واستثمارها لهذا الخلاف في تغطية هزيمتها التعبوية وفي حسم التدمير السوقي لفيتنام.
إن التخطيط الطويل الأمد لهذه الحالة لا يفترض مسبقاً بعض العوامل العارضة أو عناصر ثانوية عدة غير مهيأة أصلاً لخوض الصراع فكيف تكون جديرة بحسمه في حالة انخراطها في ذلك. وهذا ما حدث مع إيران في أفغانستان. لكن ما حصل هو تعبيد الطريق فقط نحو احتلال العراق. إن موافقة إيران على احتلال أفغانستان كانت هي بداية الفخ الكامل وعلى غرار «الجريمة الكاملة». إن الإغراء الكبير هو احتلال العراق. وكان لا بد لكلا الطرفين الاميركي والإيراني انتظار الوقت الملائم لحصول موافقة الطرف الآخر على البدء بصراع الماراثون الإقليمي. أميركا غير قادرة على البقاء في أفغانستان فقط! فلا بد من استكمال السيطرة المركزية الاستراتيجية. العراق! وإيران غير قادرة ولا راغبة على بقاء أميركا فقط في إيران مما يجعلها تعاني من ضغط غير عادي لا يمكنها أن تتحمله بمفردها وهي في عزلة دولية وإقليمية لا تحسد عليها. وعليه فاحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة هو الجائزة الكبرى لمكابدتها الاستراتيجية التاريخية ومنذ فتح العراق في القرن السابع. واحتلال أميركا للعراق سيوفر فرصاً موضوعية. العامل الشيعي الفريد من نوعه لإسنادها بالوقود المجاني لكي تطرح مشروعها التاريخي الذي قبرته الشاهنشاهية الضيقة الأفق! والخمينية العقائدية المتسرعة! لكن هذا «الفخ الكامل» في سياق المعرفة الاستراتيجية لمنهج «الهجومات العسكرية الفاسدة»، حسب التعبير البليغ للمحلل جورج فريدمان، سيتحول لاحقاً إلى خزين جديد يتكامل مع الخزين السابق لتوفير كل الفرص الموضوعية والذاتية لتحقيق التدمير السوقي لإيران وإلحاق الهزيمة التعبوية باميركا، بانتظار تجديد الحيوية الضرورية للنظام الاقتصادي الاميركي بعد السيطرة الكلية على النفط العراقي والتمهيد للسيطرة الشاملة على النظام الاقتصادي السياسي الدولي. أي أن هذه الاستراتيجية في العراق كانت مؤقتة وليست هي الانتصار الكلي. وإنما التشظي وخلق الفوضى الشاملة والتي يمكن الاستفادة من مناخاتها اقتصادياً وأن تدر هذه نتائج سياسية لاحقة. وللرجوع إلى مصادر الرأسمالية الفكرية التقليدية، فإن هذه هي قوة «اليد الخفية» في الاقتصاد حيث يستطيع رجال الأعمال تحقيق النتائج المباشرة بدون أن يعرفوا بالضبط ما هو دورهم الفعلي في نمو الاقتصاد وزيادة الثروة العامة للمجتمع! هكذا هم السياسيون أيضاً، يريدون حصاد نتائج مباشرة بدون أن يعرفوا دورهم الرئيسي ومساهمتهم في بناء ونمو القوة السياسية الدولية ذات الطابع الإمبراطوري. لكن للمشكلة الجوهرية في التحليل المطروح جانب آخر ذو حالة مميزة في تعطيل هذه الخطة أو في تجديد دمائها. إن العلاقة بين المقاومة العسكرية للاحتلال والمؤرخ للاحتلال أيضاً لها فرادتها الخاصة. فالمقاومة التي تكون شاهدة على «الإخفاق» يؤكدها التحليل التاريخي الذي هو شاهد على «الانتصار». والمأزق هذا لا يمكنه أن يحل بطريقة ساذجة وميكانيكية تخضع لابتذال المنطق الشكلي ولنفقات المصالح الخاصة. فالحل لا يتحدد الا باتجاه واحد! أن تتحول الهزيمة التعبوية إلى خسارة سوقية أو يتحول التدمير السوقي إلى نهاية للبشرية!! فالنظام الرأسمالي ما عاد يتحمل التكرار البغيض لصورة نمطية واحدة، غطرسة للقوة، وضمور احتياجات البشرية في الثروة والمناخ والموارد الأساسية، منها المياه، مع الانحطاط الاجتماعي العام وبروز ظاهرة «عنف الفاقة» المنهجي، كما يسميها الجليل امارتيا سن، والتي هي البديل الحقيقي للمزورات «صراع الحضارات» أو الصراع الكوسموبوليتي الكوني!! هكذا تورط المؤرخون في منتدى خاص في الولايات المتحدة في تقييم إنقاذ الاحتلال في العراق! وفي توقع مستقبل «بروغنوسيس» حالته الراهنة. وهذا التقييم يثبت من جديد التقصير الذي يقع فيه المؤرخ ذو البعد الواحد حين يواجه حالة معقدة مثل «القضية العراقية». فالمؤرخ ستانلي كارنوف، صاغ شعاراته كالتالي: قسم! انسحب ونظف الاسطبل جيداً ورفض المفاوضات مع أية كتلة، قبل الانسحاب! وهذا هو جوهر المطاليب! أما مارك مويار، فيجب الكف عن «تدريب» العراقيين! والبحث عن «قائد» جديد، وليس المالكي طبعاً والتفاهم معه ضمن شروطه التي يضعها عنه الاحتلال! ومن ثم الانسحاب! أما روبرت بريغام، فهو يلغي «الكينونة» العراقية ويعتمد على «منظومة» دول الجوار القادرة وحدها على المساعدة في الخروج من عنق الزجاجة! فالنظام الإقليمي، طبعاً بدون ايران، هو الوحيد القادر على إطفاء حرائق الاحتراب العراقي الداخلي. أما لوري بيرمان، فالمسألة عنده هندسية ـ عسكرية محضة، بناء جدول حديدي واضح لانسحاب منظم قادر على إفراز حقائق سياسية جديدة من شأنها أن تؤكد على حيوية العملية السياسية برمتها وعلى خلق قيادة سياسية ميدانية يكون لها قصب السبق في إدارة البلاد نحو التفاهم الاستراتيجي الكامل مع الولايات المتحدة. ولعل المؤرخ جيديون روز هو المتميز بين هؤلاء. كونه ألغى عملياً كل العوامل السياسية والعسكرية والاقتصادية وركز على «دور الإعلام المركزي» و«دعم الرأي العام» في هذه العملية التاريخية. وأن هذه بدورها تكون العتلة الأساسية في تغيير كل الخطة وخلق حقائق جديدة على الأرض تجعل من «العراقيين» يطالبون بكل شيء يقترحه الاحتلال بشكل خيارات متعددة يمكن رفضها أو القبول بها. ما الذي يفعله المرء هنا! الأرقام التي يطرحها روز تبدو صماء سياسياً. ولكنها كافية لتأكيد «اللوحة الضوئية» المنذرة لتقرير بيكر. الآن وقف الاستدارة نحو إكمال العملية المطلوبة! في فيتنام منذ 1950 وإلى 1975 أنفقت أميركا 650 مليار. وسقط 58.000 قتيل و000,365 جريح أما في العراق ومنذ 2003 وإلى ,2007 فقد أنفقت أميركا أكثر من 400 مليار، يتجاهل روز تحليلات جوزف ستيغليتز والتي ترشح النفقات إلى حدود التريليون وأكثر، وسقط لحد الآن أكثر من 3000 قتيل و000,25 جريح!! إن الإجابة كانت حاسمة من قبل فريق «العلوم السياسية» في الإدارة! في المقدمة بيتر فيفر أستاذ العلوم السياسية في جامعة ديوك والذي وضع اللبنات السياسية الأولى لاستراتيجية بوش في عام ,2005 وكانت هي القاعدة الفكرية لكل الخطط اللاحقة. وبعده يأتي المتفرغون في معهد اميركان انتربرايز وفي مقدمتهم فريدريك كاغان، وجوشوا مورافيك. ويقول المعلق ستيف كليمونز بأن هذه العصابة الآن جاهزة من جديد لتلفيق «الكذبة النبيلة» لتحطيم ايران وإنقاذ المشروع الامبراطوري كله. ويمكن القول في ظل هذه التطورات اللولبية المسار، والتي تفرز مباغتات معينة وبعض التضليلات التي هي متخصصة في التزوير وفي إضفاء مسحة من الصدقية على سلوكيات الإدارة البوشية.
أولاً: إن الفريق الذي يقوده تشيني سياسياً ـ أمنياً من أجل استكمال المشروع وتحقيق الضربة على إيران يعتمد أولاً وأخيراً على «الفخ الكامل» الذي وقعت فيه القيادة الإيرانية. وأن هذا الفريق يستمد قوته من الآلية «الداخلية» للمحافظين الجدد وعلاقاتهم المتشابكة مع المجمع الصناعي ـ العسكري ـ النفطي وهو يمثل الإدارة الاميركية بامتياز. أما تيار كوندليسا رايس، فعملياً هو مدعوم من معظم الأقسام الأمنية القومية الرسمية والتي تعكس الآن المصالح العليا للمؤسسة الاميركية التاريخية. يساعد كوندي في مهمتها «الدبلوماسية الحربية» في الشأن الأوسطي الحالي كل من جون نيغروبونتي مساعدها الخاص، والسكرتير نيكولاس بيرنز، والمستشار الرسمي جون بيلنغر، ومدير المخابرات القومية مايك ماك كونيل ومدير المخابرات المركزية مايكل هايدن مع وزير الدفاع روبرت غيتس. هؤلاء يضخون العضلات العسكرية في شرايين دبلوماسية كوندي السياسية والثقافية وهم في الوقت نفسه يطبخون الوجبات الساخنة الاحتياطية لإقناع مراكز القرار المتنفذة في طهران بجدية الميل دائماً إلى الخيار العسكري. علماً بأن تشيني في زيارته إلى المنطقة قد نوّه إلى استراتيجية «نهاية المطاف» وشدد على إمكانية استخدام إسرائيل في حربها مع إيران صواريخ كروز وليس الصواريخ الباليستية الاستراتيجية!
ثانياً: إن بقاء الاحتلال الآن أصبح ضرورياً ليس بالنسبة للإدارة فقط وإنما أيضاً حتى بالنسبة لأقسام مهمة من الحزب الديموقراطي و خاصة المحافظين الجدد منهم، بعد أن اقتنعت المؤسسة بأهمية ذلك بالنسبة للدول المجاورة ومنها إيران! وخط الاعتدال العربي الرسمي، محور الأردن ـ مصر ـ السعودية! فبقاء الاحتلال يعطي الانطباع بأن الحرب على إيران صعبة. لأن الجيش الاميركي رهينة بيد الميليشيات الشيعية التابعة لإيران! وعملياً يمنع الانفصال الذي يفكر به بعض الحمقى من الجانب الشيعي، الحكيم، أو السنجق الكردي، البارزاني، ويعرقل كذلك فصل كركوك أو البصرة والسيطرة عليهما! كما أن بقاء الاحتلال يرضي «القاعدة» استراتيجياً ورغبتها في الاستمرار في استنزاف الاحتلال وقطع الطريق أمام الجهود التي تبذل من أجل القيام بمفاوضات بين قوى مهمة من المقاومة المسلحة مع الإدارة الاميركية. وهذه من شأنها عزل «القاعدة» سياسياً وإضعاف موقعها العسكري.
ثالثاً: إن خروج بلير من الحياة السياسية البريطانية «قد» ينهي حقبة عضوية من التعاون البريطاني ـ الأميركي الشامل في العراق، بالرغم من أن العديد من المحللين الانكليز والمرتبطين فكرياً وروحياً مع المحافظين الجدد في أميركا، يميلون إلى توقع حصول النتائج نفسها التي «بشروا» بها قبل الحرب وبعد الاحتلال. ومنهم غاريث ستانسفيلد، في دراسته الأخيرة عن تشاتام هاوس، والتي يؤكد فيها أن العراق ينهار ومقبل على التقسيم الكامل.
رابعاً: أن هذا «التقسيم» المفترض، «والحرب الأهلية» الافتراضية هي موضوعات «فكرية» محضة، ليس لها رنين خاص في سوق السجال السياسي أو في المجرى اليومي للصراع. فالاستاذة في جامعة سان دييغو ـ كاليفورنيا باربرا والتر تؤكد من خلال دراستها للحروب بين أعوام 1940ـ2005 بأن 54 من الحروب بين الشعوب أدت إلى المفاوضات، وأن 24 فقط كان مصيرها العنف المستمر. وعليه فإن ترك العراقيين لحالهم لن ينفع، ولن يجعل أطراف الحرب يصلون إلى اتفاقية ما. فلا بد من طرف «ثالث» أو أكثر، لإقناعهم بعملية التسوية وذلك لكي يعتمد عليه أحد الفرقاء في حالة انحراف الفريق الآخر. وتقول والتر بصراحة في ظل الوضع القائم لا بد لأميركا من أن تكون راعية لهذا الاتفاق. على أن تكون في الوقت نفسه مع الطرف «الضعيف» وليس مع العناصر «القوية» وهذا التوازن الجديد، لا بد أن يكون له الدور أمام انهيار التوازن السابق والذي أطاحت به الحرب ومزقته جنازير الاحتلال.

مصادر
السفير (لبنان)