منذ ثلاثين عاماً ونيف لم تهدأ أوار الحرب في لبنان، سواء كانت حرباً أهلية أم اعتداءات إسرائيلية أم حروباً عربية يقوم بها اللبنانيون بالنيابة عن أشقائهم وعلى أرضهم أم كانت أخيراً حروباً بمؤثرات دولية أو تدخلات خارجية لأهداف غير لبنانية حتى وإن كانت بأيادي تيارات وأحزاب وقادة سياسيين لبنانيين.

وقد تشكل وعي المواطن اللبناني لجيل الشباب الحالي وجيل الكهول بتأثير هذه الحروب التي تعايش اللبنانيون بها ومعها حتى كادت أكثريتهم تعتقد أن الأمر الطبيعي هو الاستيقاظ على صوت الرصاص والنوم على أصوات انفجار القنابل والسيارات المتفجرة.

كان لبنان في الوعي العربي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي بلد الديمقراطية وملجأ السياسيين العرب المعارضين ومركز الثقافة والنشر العربي، وكان مجتمعه بنظر العرب أكثر المجتمعات العربية تحديثاً وحداثة وثقافة وبحبوحة، وفي الوقت نفسه كان هذا البلد بلد السياحة والاصطياف والطرب، أي بالمحصلة كان من جهة محط أنظار المناضلين العرب الذين يلجأون إليه هروباً من القمع والاستبداد في بلدانهم ومن جهة أخرى محط أنظار الموسرين الذين يلجأون إليه للراحة والاستجمام وممارسة التقاليد الاستهلاكية والتسوق والمتعة التي لا تتوفر لهم في بلدانهم.

ولأن لبنان كذلك، وبسبب الحريات واسعة الطيف الممارسة فيه، وكونه مركز الثقافة والنشر والحراك الفكري والحوار فقد كان إما منبعاً للحركات السياسية في المشرق وإما راعياً لها ولمبادئها تعديلاً وتطويراً، ولهذا كان معظم العرب يغبطون اللبنانيين على الحال المتقدم الذي هم فيه، ويتمنون لو كانوا لبنانيين يتمتعون بتلك النعم التي يتمتع اللبنانيون بها.

مع أن الإمكانيات الطبيعية للبنانيين محدودة وموارد رزقهم التلقائية كذلك، فلا بترول ولا مؤسسات ولا صناعة متطورة ولا زراعة مزدهرة، بل مجتمع خدمات بناه اللبنانيون بمهاراتهم ودأبهم وجهودهم وتطلعهم الدائم نحو الأفضل في ظل نظام سياسي يحترم الحريات والحوار والتعددية ويؤمن الشروط الموضوعية لإطلاق المبادرات الفردية وغير الفردية، دون أن يتخلى المجتمع اللبناني عن دوره الهام في حركة النهضة العربية بمختلف تياراتها ويكون مهداً لها في القرن التاسع عشر ومنشطاً أو محفزاً أو حامياً لها في العصور اللاحقة.

توافق اللبنانيون على نظام سياسي لا مثيل له في العالم يقوم على المحاصصة بين الطوائف التي بلغ عددها ثماني عشرة طائفة، ورغم أن هذا النظام لا يعتبر ديمقراطياً بمفاهيم الدولة الحديثة التي تعتمد المواطنة مرجعية وحيدة لها مهملة الانتماءات الطائفية والإثنية والإقليمية وغيرها. إلا أنهم ارتضوه من جهة وعوضوا هذا الخلل في ديمقراطية نظامهم السياسي بأن أطلقوا الحريات الفردية بدون حدود ومارسوها في هذا الإطار من جهة أخرى وأكدوا بذلك صدق القول ان لبنان بلد الحريات.

لأن النظام السياسي اللبناني قائم على المحاصصة الطائفية، ولأن ديمومة التوازن بين الطوائف تعتمد على إمكانيات كل طائفة في التأثير بالحياة العامة، ولأن الإمكانيات الذاتية لكل طائفة محدودة، وبسبب تغلغل التسلح في المجتمعات العربية وفي حركات التحرر العربية (وخاصة الفلسطينية منها) وطغيان العسكريتاريا العربية بعد هزيمة يونيو على المجتمعات بسبب هذا كله فقد أخذت الطوائف اللبنانية (معظمها إن لم يكن كلها) تعتمد على الخارج لتغيير التوازن الداخلي أو لحماية نفسها مما أدخل السلاح إلى لبنان ومالك السلاح يستعجل القرار عادة ولا يرى أبعد من أنفه.

فاشتعلت الحروب داخل لبنان، وأخذ كل فريق يسلح نفسه أو يتلطى بحماية فريق مسلح وكله له أهدافه ومراميه حتى ضاعت الأهداف الأصلية وفقد لبنان أو كاد ميزاته، لكنه حافظ في الوقت نفسه على احترام الحريات وعلى نظامه السياسي الطائفي (مع تعديلات جزئية حسب اتفاق الطائف) لكن هذا كله لم يساعده على الاستقرار ولا حتى على تطبيق ما اتُفق عليه في الطائف.

فتغيرت الظروف الموضوعية التي تحيط بالبلاد، وقويت طوائف واستقوت على غيرها وبرز زعماء جدد خرجوا من فوهة البندقية أو من التحالف مع الخارج، وتغيرت شروط التوازن والاستقرار اللبناني، وغدا المجتمع اللبناني بحاجة لإعادة نظر بأسس قيامه واستمراره دون أن يفصح عن ذلك علناً وتحتج كل فئة أو طائفة بحجج ليست هي الحقيقية ولا الأصلية ولا يجرؤ أحد حتى الآن على قول الحقيقة والقول ان الصراع الحقيقي إنما يقع حول إعادة النظر ببنية النظام السياسي واختيار نظام سياسي آخر يتعامل مع الشروط القائمة والتوازنات القائمة ليس في لبنان فحسب وإنما في المنطقة العربية ومع الظروف الدولية في عالم اليوم.

وهكذا لم تعد الإمكانيات الذاتية للطوائف اللبنانية ولا للمجتمع اللبناني قادرة على تقرير مصير البلاد إذ لا بد لها من ركيزة خارجية أو دعم خارجي، وتمادى الخارج في التأثير بتطور لبنان ومستقبله حيث أخذ يعتبره ميداناً مفتوحاً للصراع يؤهل هذا الخارج أن يبعث برسائل أو يساهم في حسم أمور إقليمية ودولية سياسية وغير سياسية من خلاله.

ولم يعد يكتفي بالتأثير في مجرى الأحداث فقط بل يطمع في صنعها من خلال لبنان وحلفائه فيه باعتباره ميداناً لحسم الصراعات، وبديهي أن المجتمع اللبناني هو الذي يدفع ثمناً غالياً لقرارات لم يتخذها ومصائر لم يقررها وأهداف لا يراها، ومع الأسف فإنه يعتقد أن حروبه الصغيرة وخلافاته المحلية هي مدار الصراع الرئيسي وأن حسمها سوف يحقق النصر مع أنها كلها ليست سوى جزء من صراع كبير (ومسمار) في آلة ضخمة لم يرها معظم المتحاربين في لبنان بعد.

لقد أثبت الشعب اللبناني أنه من أكثر الشعوب العربية إيماناً بالقضايا العربية وحرصاً على التضحية من أجلها مع أن العرب كانوا يعتبرونه شعباً غير محارب ولا يُرجى منه شيء في هذا المجال، ولعل نهج الحريات والحوار والتعددية في لبنان والإصرار على إعطاء المجتمع حقوقه كلها في تشكيل مؤسساته ومنظماته أعني منظمات المجتمع المدني وهي التي أبقت المجتمع اللبناني متماسكاً رغم كل الحروب والويلات التي شهدها وحفظته من التفكك والتفتت وأبقته قادراً على العيش والاستمرار والتطلع إلى المستقبل.

إن الأمر اللافت للنظر، أن القوى المتصارعة في لبنان الداخلية والخارجية لا تريد إنهاء الصراع ولا ترأف بالمجتمع اللبناني، وإلا لماذا لم يقرر العرب على عجل المساهمة الجادة في إيقاف التدهور وإطفاء الحروب وحقن الدماء، وإلزام القوى غير العربية أن تحذو حذوهم، ولماذا يتركون الحبل على الغارب للمقاتلين سواء كانوا لبنانيين أم غير لبنانيين يحرقون الأخضر واليابس دون أن يتصرفوا بملء المسؤولية القومية والسياسية لإنهاء هذا الحال ومساعدة اللبنانيين على الاتفاق وتقرير المصير وتحقيق الاستقرار والازدهار الذي يطمحون إليه ويستحقونه

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)