ألمُّ إلى حد ما ­ وهذا مفيد ­ بتدبير المؤامرات, واقتراف الأعمال القذرة, بل وأقوم أيضاً بغير ذلك من مهام, ومن ثم كلما فكرت أنني بهذه الصلاحية أدركت أنني أهل لخدمة هذا البلد, وطني الحبيب سوريا.
كي لا يسيء القراء الظن, فهذا الكلام, لأنه راهن جداً, ليس لي, ولا لأي شخص سوري, وإنما هو مقطع شعري للشاعر اليوناني الشهير كافافي الذي ولد في أيار €مايو€ من العام 1863 وعاش وتوفي في 29 أيار €مايو€ من العام 1933 في الإسكندرية, حيث رفض الإقامة في أثينا على الرغم من الدعوات التي وجهت إليه, وكان يقول أن قلبه مدفون في الإسكندرية.
كافافي أو كافافيس يمتعني مثلما يذهلني, كلما أعدت قراءة قصائده وسيرة حياته, وكأنها المرة الأولى. المقطع الوارد أعلاه زاد في دهشتي ودفعني لإعادة قراءته, ليس من منظور الشعر والتأمل في النفس الإنسانية, بل القدرة على تقديم خلاصة التجربة البشرية في لغة بسيطة ولماحة. الأشد مرارة, أن خبرة كهذه تجعلنا نسلم بأن تغيير الحال من المحال, فمنذ أكثر من 77 عاماً كتب كافافي الوصفة الناجعة للمواطن المثالي القادر على خدمة بلد حبيب كسوريا!! التي يعتبرها الشاعر بلده وبلد أجداده اليونان.
«تدبير المؤامرات واقتراف الأعمال القذرة»... وغيرها من مهام, العناصر الأساسية في خلطة صلاحية خدمة البلد الحبيب. وصفة كافافي الشعرية المجربة التي وضعت قبل ولادة الدولة السورية بشكلها المعاصر, وثبت أن لا غبار على صحتها, فلكي يكون المرء ضمن هيكلية مؤسسات هذه الدولة وأي دولة أخرى بشرط أن تكون شقيقة, يجب أن يلم بأبجد هوز تدبير المؤامرات, فإذا لم يضطر إلى حياكتها, فعلى الأقل يكون قادراً على كشفها في حال التعرض لها, إذ لا يمكن تصور حياة يومية في الشارع خالية من المكائد, إنها سنة التحاصص في عقد الفساد الاجتماعي, في تسلسل هرمي مذهل في إحكامه, بدءاً من عصابات التسول وليس انتهاءً بالمجتمع الوظيفي بأعلى مستوياته, فلكل مجموعة مجتمعية أعراف وتقاليد تضبط حركة الأفراد فيها. وكما لا يجوز لولد شحاذ التسول في منطقة غير منطقته المتفق عليها بين أرباب عمله من المستثمرين في الشحاذة, كذلك لا يجوز لموظف أيا كان موقعه «الهبش» من حصة غيره, لأن في ذلك تعدياً على مناطق نفوذ الغير, وهو منافٍ لأخلاق «عقد الفساد» المضمر الذي أصبح معلناً؛ فحتى الفساد صار له قوانين لا يمكن تجاهلها في مجتمع بدأ يمنح الشرعية لمنظومة قيم لا شرعية وأخلاق لا أخلاقية.
كي لا نغرق في التنظير, لنتأمل قليلاً ما يرد في أحاديث الشارع اليومية ونمائم المقاهي خلال فترة انتظار التغيير الحكومي المأمول والمتوقع عادة بعد انتخابات مجلس الشعب والولاية الرئاسية الجديدة. فحين يرد ذكر انتهاء صلاحية فلان من المسؤولين يقال إن «أوراقه احترقت بالكامل», وهذا ليس لفساده أو لسوء إدارته, بل لأنه لعب بغشمنة بأوراق مكشوفة فاحترقت. وبالتالي يوصف مسؤول آخر مرشح لمنصب أعلى بـ«القوي» ليس لكفاءته, بل لمهارته في اللعب فوق وتحت الطاولة ومع عدة أطراف في آن واحد, ويقال €حابكها مليح€ إذا كان رابطاً خيوط دعمه مع أكثر من مركز قوة, تدفعه نحو الأعلى وتبقي ظهره مسنوداً, بشرط الالتزام بحدود التسلق القصوى فلا يتجاوزها, وإلا فإن كل الخيوط معرضة للقطع, مما يعرضه للسقوط المدوي €المشرشح€. إذاً فالقوي هو من يتقن اللعب والتلاعب, ويجيد تقدير مسافات الأمان للارتقاء في المناصب في أي بلد حبيب يا حبيب ويا مجيب الدعوات يا رب... وأي ميزات أخرى كالعلم وحسن الإدارة ونظافة الكف و... إلخ ليس سوى زيت على زيتون, لا تنفع, لكن زيادتها عن الحد قد تضر, ويكون لها مفعول المزلقات سريعة المفعول والتفاعل, إذ تطيح صاحبها مع أول منعطف لترميه في وادي «كان يا ما كان»... حينذاك سينضم إلى كوم المستغنى عن خدماتهم ليبحث عن عزاء له في حكم وأقوال وقصائد مثل القصيدة أعلاه والتي يكمل فيها كافافي القول:
سوف ابذل قصارى جهدي في أي عمل يسند إليَّ كي أكون نافعاً. هذا هو مطمحي.
ولكن لو وضعوا في وجهي العراقيل بأساليبهم ­ ونحن على علم بما يفعل هؤلاء الشطار ­ لن نميط اللثام عن المستور الآن, لو وضعوا العراقيل , فما ذنبي أنا؟
بدورنا نكمل: إذا كنت لا تتقن الأعمال القذرة فلا تفكر في استجداء المناصب, اخدم بلدك بصمت, واحرص على أن تعيش في كانتون مهمل معزول عن الحسد والضغينة, لا تفكر في أجر معنوي ولا مادي لخدماتك الجميلة مهما كانت جليلة, وقبل يدك «وجهاً وقفا, صباحاً ومسا» إذا تذكروك في أرذل العمر, بحفل تكريم تكون فيها كخرقة جلد الغزال التي يلمعون بها صورهم المذهبة, وزجاج سيارتهم «المفيمة». وتذكر بأنه حين تحاصرك الفاقة والفقر رغم ما حصلته من خبرات وقدمته من خيرات, لا يكون استفقادهم لك رحمة ولا نعمة. لا تدع اليأس يتسلل إلى نفسك, ولا تندم على ما فعلت, وأنت ترى الأقل منك علماً وأدباً يرفل بأثواب النعيم, إنه يستحقها أكثر منك أيها المغمور, لأن الوصايا الربية لم تكتب لك وحدك من دون سائر الخليقة, واجتهادك بالتزامها لا يثبته سوى معجزة فيض النور من قبرك بعد عقود من موتك, حينذاك قد يطوبك الفاتيكان قديساً, أو يعترف بك المؤمنون ولياً من الأولياء الصالحين.
من كل هذا, يهمنا الآن ألا تحلم بالحصول على كرسي في الحكومة, لا رئيسا لها ولا حتى مستخدماً فيها. الأجدى بك والأجدر لك التفكير بالآخرة والزهد بالدنيا الفانية, فكر بموتك وبقبر متواضع في منطقة مهجورة لا ترتفع فيها أسعار الأراضي, وإلا فإن سماسرة القبور بالمرصاد لجثتك سيجرفون عظامك ويبيعون قبرك. وريثما تحل ساعتك, ليس لك مهما طال الزمن سوى التأمل وإعادة التأمل بوصفة الحبيب اللبيب كافافي.

مصادر
الكفاح العربي(لبنان)