هناك جريمة يتم ارتكابها يوميا، دون أن نعرف من الجاني، أو هل هناك جاني بالفعل!! فقبل أن تصبح دمشق عاصمة للثقافة هل نستطيع أن نملك هذه المدينة في عقلنا على الأقل؟ وهل بالإمكان رؤيتها دون الصراع الكلاسيكي بين قديمها وجديدها، أو بين اهتراء البيوت الطينية وقسوة العمارة الاسمنتية؟

من يطلع على البيئة الثقافية التي ترافق أجيالنا ربما يدرك سريعا أن هذه المدينة غائبة أو مغيبة، وأن "ناسها" لم يشطبوا من الذاكرة فقط بل أيضا تم تكسيرهم لتحتل أسماء مبتسرة الكتب المدرسية أو واجهات المكتبات العامة.

في ذاكرة الأطفال والناشئين لا وجود لقصائد نزار قباني "سواء أصبح عندي الآن بندقية" أو "قد قضى الله أن تكوني دمشقا بك يبدأ وينتهى التكوين"... وفي ذاكرة الأطفال لا يوجد يوسف العظمة إلا عبر نص إنشائي لا يوقظ الحلم أو الخيال لوزير دفاع قضى من أجل سورية...

كيف يمكننا أن نستقبل احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية ونحن نحمل كل إشكاليات الجدل البيزنطي، بينما لا نملك رمزا للمدينة، والنصب الوحيد الموجود هو لصلاح الدين الأيوبي، أما زوار دمشق فهم مولوعون بقطع الموزاييك الذي لا يحمل أي صورة أو يعبر عن هوية المدينة.

هناك عشق مفقود داخل دمشق، وهو ليس وليد اللحظة لأنه شكل صورها التاريخية المتعاقبة، فكل حقبة تحاول مسح ما قبلها حتى أننا لا نجد اليوم سوى ملامح "المماليك" بينما انتهت معظم الصور الأيوبية والسلجوقية والفاطمية والعباسية والأموية.

في تاريخ المدينة هناك من يروي أن كل بداية كانت تمحو معلما سابقا للمدينة، فالتكية السليمانية وهي عثمانية بامتياز، حلت مكان قصر الأبلق "المملوكي"، وقبل ذلك زرع الأيوبيون مدارسهم في كل زاوية لإنهاء "الصور الفاطمية"، ورغم أنني لا أعرف بدقة نوعية هذه الأحداث التاريخية وتفاصيلها، لكنها على ما يبدو تقليدا رافق دمشق منذ فجر التاريخ.

قبل أن تصبح دمشق عاصمة للثقافة ربما علينا النظر قليلا لرسم المدينة من جديد في عقلنا حتى نستطيع أن نفهم موقع الثقافة العربية داخلها، وربما علينا قراءة "بدير الحلاق" وابن كنانة الصالحي وصفحات مما كتبه ابن عساكر، وربما الأهم ابن طولون لنعرف مساحة الانتقال ما بين المملوكي والعثماني.

إنها هواجس لمدينة ربما نستطيع أن نعرفها تاريخيا لكننا عاجزون عن رؤيتها بصورتها المعاصرة أو تكريسها كمولدة للثقافة، أو حتى كرمز لاستمرار الحياة والمجتمع على هذه البقعة الجغرافية.