بعيد وصوله إلى الحكم عام 1995، أعلن الرئيس الفرنسي جاك شيراك ما سمّي آنذاك البروتوكولات العشرة، أو ما عرف بالنقاط العشرة التي حدّدت السياسة الفرنسية للسنوات السبع المقبلة. ومن أهم هذه النقاط كان تفعيل الردع النووي الفرنسي بعد سبات طويل في عهد الرئيس اليساري فرانسوا ميتران. وكانت هذه الخطوة بطبيعة الحال رسالة فرنسية للولايات بيتر بيسميستروفيك - Kleine Zeitung- النمساالمتحدة، مفادها أن باريس لن تسير منذ الآن في دروب الدبلوماسية الأميركية. رسالة وجدت لها أصداء قوية في المشرق العربي، ولا سيما عند السوريين. وكانت النقطة الثانية ذات الدلالات السياسية بالنسبة إلى سوريا، هي إعلان الرئيس جاك شيراك تفعيل العلاقات الفرنسية مع الدول الفرنكوفونية، ولا سيما لبنان الذي يشكّل لؤلؤة المشرق بالنسبة إلى فرنسا، مع إقرار فرنسي بأهمية الدور السوري في لبنان بشكل خاص والمنطقة بشكل عام.
وجد الرئيس الراحل حافظ الأسد في الطرح الفرنسي تغيراً استراتيجياً في السلوك السياسي الفرنسي لا بد من استثماره سياسياً، فجاء العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1996، أو ما عرف بعناقيد الغضب، فرصة كبيرة لتلاقي الطرفين على الساحة اللبنانية كان عنوانه تفاهم نيسان الذي شرّع المقاومة اللبنانية في حال إقدام إسرائيل على استهداف المدنيين والمنشآت المدنية في لبنان.
في العام ذاته أعلن شيراك من تحت قبة مجلس النواب اللبناني، بمناسبة انعقاد القمة الفرنكوفونية، أنّ انسحاب القوات سبرينغس - Financial Times- لندن - Courrier Internationalالسورية من لبنان مرتبط بالتسوية السلمية في المنطقة، موقف عُدَّ سابقة في تاريخ السياسة الفرنسية.
ومنذ ذلك العام، بدأت العلاقات السورية ـــــ الفرنسية تأخذ منحى الشراكة والتحالف الاستراتيجي، وظهر ذلك بشكل جلي من خلال زيارة الرئيس شيراك إلى دمشق والحفاوة الكبيرة التي لقيها في مقابل توتّر العلاقات الفرنسية الإسرائيلية التي ظهرت خلال زيارة شيراك إلى الأراضي الفلسطينية ومحاصرة الجنود الإسرائيليين له.
وجدت دمشق في باريس قوة سياسية هامة لا تقتصر على الحدود الجغرافية للقارة الأوروبية، بل تتعداها إلى المسرح الدولي، وقد استفادت سوريا من العلاقة القوية مع فرنسا في نقاط عدة:
1ـــــ إحداث نوع من التوازن الدولي في ما يتعلّق بالصراع العربي ـــــ الإسرائيلي من شأنه أن يخفف من حدة الموقف الأميركي الداعم لإسرائيل.
2ـــــ الدفاع عن سوريا في المحافل الدولية، ولا سيما في وجه الولايات المتحدة وبعض الأطراف الأوروبية.
3ـــــ دعم المطالب العربية في استرداد الأراضي المحتلة، ولا سيما الجولان المحتل.
4ـــــ دعم العلاقات الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي.
في المقابل، وجدت باريس في دمشق موطئ قدم للدخول في تفاصيل قضايا الشرق الأوسط، كما وجدت باريس في علاقات جيدة مع دمشق فرصة للتفاهم في شأن لبنان وتحديد طبيعة العلاقة التي تربط سوريا بلبنان.
استمرّت العلاقة السورية ـــــ الفرنسية بالوتيرة نفسها طوال السنوات اللاحقة، حيث استقبل شيراك الدكتور بشار الأسد قبيل توليه الحكم عام 1999، ثم جاء إلى دمشق معزياً بوفاة الرئيس حافظ الأسد في إشارة إلى متانة العلاقة بين الطرفين.
في السنوات الثلاث الأولى من حكم الرئيس بشار الأسد، تعمّقت العلاقة بين باريس ودمشق، وكان من نتيجة ذلك إعادة الانتشار السوري في لبنان أولاً، ثم الموقف الموحد من الحرب الأميركية على العراق، لكن لم يمض عام كامل حتى بدأت العلاقة بين الطرفين تأخذ منحى آخر. وكان القرار 1559 تجسيداً لنهاية هذه العلاقة وبداية لمرحلة أخرى.
اختلف المراقبون في أسباب تغير العلاقات بين فرنسا وسوريا. ففيما ذهب البعض إلى تحميل سوريا أسباب هذا التغير نتيجة عدم التزامها الوعود التي أطلقتها بإعادة انتشار قواتها في لبنان إلى البقاع، وافشال مؤتمر باريس 2، وعدم توقيع بعض الاتفاقيات الاقتصادية مع شركات فرنسية، فضلاً عن تباطؤ مسيرة الإصلاح السياسي في سوريا، يرجع البعض الآخر، وخصوصاً السوريين تغير العلاقات مع فرنسا إلى شيراك نفسه، وشخصنته العلاقة مع سوريا تحت تأثير رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري. ويستندون في ذلك إلى ثلاث نقاط: الأولى اجتماع النورماندي بين شيراك وبوش وأزنار الذي سبق القرار 1559 بأشهر عدة. والنقطة الثانية هي تصريحات بعض السياسيين في الخارجية الفرنسية المحنّطة من أنها ليست على علم بالقرار 1559 الموجه ضد سوريا. أما النقطة الثالثة فهي ما كشفته صحيفة معاريف الإسرائيلية أخيراً من أن الرئيس شيراك طلب من إسرائيل إبان عدوانها على لبنان في تموز الماضي اجتياح سوريا وإسقاط النظام السياسي فيها مع دعم فرنسي كامل في مجلس الأمن الدولي.
ومع أن كلا الرأيين يمتلكان قدراً معيناً من الصحة، إلا أنهما يظلان قاصرين عن تحديد طبيعة التغير الحاصل في العلاقة السورية الفرنسية. فمن الخطأ تحميل سوريا وحدها وزر تراجع هذه العلاقة، كما من الخطأ أيضاً القول مع البعض إن العلاقة الشخصية التي تربط شيراك بالحريري كانت وراء الموقف الفرنسي من سوريا. فالعلاقات الدولية لا تبنى على المشاعر والمواقف الشخصية، مع عدم نكران العامل الشخصي.
إن السبب الأهم والمباشر في تغير العلاقة الفرنسية ـــــ السورية، يعود إلى تغيّر أولويات السياسة الفرنسية بعيد سقوط بغداد، وشعور الفرنسيين بأن واشنطن قد أحكمت سيطرتها على الشرق الأوسط سياسياً واقتصادياً مع حليفتها الأوروبية بريطانيا، وخروج فرنسا خالية الوفاض من كعكة الشرق الأوسط. وإلا فكيف يمكن تفسير تغير الموقف الفرنسي من كل قضايا المنطقة، إذ لا يعقل أن يكون الموقف من سوريا وحده وراء تغير الموقف الفرنسي من مجمل قضايا الشرق الأوسط بما فيها القضية الفلسطينية، والعلاقة مع إسرائيل. إن تصريح وزير الخارجية الفرنسي السابق عام 2005 في إسرائيل بأن فرنسا لم تعد صديقة للعرب، بل صديقة لإسرائيل أفضل دليل على تغير الاستراتيجية الفرنسية، وانقلاب على الإرث الديغولي الذي نادى به شيراك طوال سنوات حكمه الأولى.
كل ذلك يجب أن يدفع بعض السوريين إلى إعادة قراءة الموقف الفرنسي من جديد على أسس سياسية لا على أساس شخصي. فمن الخطأ القول إن العلاقة مع باريس ستتغير وتعود إلى سابق عهدها بمجرد خروج جاك شيراك من قصر الإليزيه، ذلك أن السياسة الفرنسية أصبحت محكومة بمظلتين (المظلة الأوروبية والمظلة الأميركية)، ولم تعد قادرة على الخروج من تحتهما، ولا سيما في ظل رئاسة نيكولاي ساركوزي الذي يؤكد على خصوصية الاتحاد الأوروبي من جهة، والعلاقة مع الولايات المتحدة من جهة ثانية. فعلى الصعيد الداخلي الفرنسي والأوروبي، بدت مواقف ساركوزي من قضايا الهجرة والهوية وتركيا إيذاناً ببدء نهج هو الأقرب إلى اليمين الفرنسي المتطرف من اليمين التقليدي الحاكم. وعلى الصعيد الخارجي، سواء في العلاقة مع واشنطن أو في قضايا الشرق الأوسط، يبدو أن عهد المحافظين الجدد الفرنسي قد ولد في وقت ذبل فيه في واشنطن. فهناك شبه تطابق في المواقف بين الطرفين حيال مكافحة الإرهاب ومستقبل الناتو والعلاقة مع روسيا والأوضاع في الشرق الأوسط، بما فيها العراق وفلسطين ولبنان وطبيعة الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، الأمر الذي يعني أن السياسة الفرنسية التقليدية تجاه الشرق الأوسط قد ولت إلى غير رجعة، وما مقولته الشهيرة «القطع مع السياسة الديغولية» إلا تعبير واضح عن التوجه الجديد لفرنسا.
وبناء عليه، لا يتوقّع في المدى المنظور حدوث تغير في العلاقة الفرنسية السورية. فلا باريس مع ساركوزي مستعدة للإبحار بعيداً عن الرياح الأوروبية ـــــ الأميركية، ولا سوريا بصدد تقديم تنازلات في الملفات الثلاثة: لبنان وفلسطين والعراق من أجل إرضاء الفرنسيين.