قبل انعقاد قمة الثماني برئاسة المستشارة الالمانية انغيلا مركل تخوف العالم من احتمال معاودة الحرب الباردة بين روسيا والغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً. وكان الانفجار الذي ميز نصوص ما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حاداً ومنطوياً على غضب كامن بسبب ما اعتبرته روسيا امعاناً اميركياً في تطويق استراتيجي محكم حول الاتحاد الروسي.

الا ان ما حصل في قمة الثماني ادى الى فتح حوار بين الرئيس جورج بوش وفلاديمير بوتين لكنه لم يزل اسباب التوتر في العلاقات ولم يطمئن الاتحاد الروسي الى توضيحات الرئيس الاميركي في ما يتعلق بنشر رادار في الجمهورية التشيكية وصواريخ مضادة للصواريخ في بولونيا.

ان ما يهمنا في هذا الشأن هو كون الحرب الباردة التي كادت ان تعاود قبيل القمة تحولت حرباً فاترة بعدها.

***

هذا التحول مهم بالنسبة الى الحالات المأزومة كالحالة العربية عموماً وخصوصاً النزف الحاصل في العراق وفلسطين والمواجهة اللبنانية مع فلول "القاعدة" والتي يخوضها الجيش اللبناني في مخيم نهر البارد. بمعنى آخر ان التحول من احتمال حرب باردة تؤكد استقطاباً يتحكم بالحدة والحسم القاطع بالانضواء الى احد القطبين، الى حرب فاترة يشتري لنا – للعرب اجمالا – فسحة زمنية تمكننا من استرجاع معظم وسائل تقرير المصائر وإن لم يكن كلها اذا توافرت الارادة التي تدفعنا الى مسيرة اعادة وحداتنا الوطنية فوراً في المثلث المأزوم: لبنان – فلسطين – العراق.

الفسحة الزمنية ما كانت توافرت لو تحول خطاب بوتين الغاضب قبل القمة حرباً باردة. وكون هذا التحول لم يحصل فان التغييرات الحاصلة والمتوقعة في عدد من الدول المقتدرة من شأنها، ان احسن العرب فهمها واستيعاب مدلولاتها لبات في الامكان ادارة ازماتنا التي تبدو مستعصية على نحو يجعلها قابلة للحلحلة مرحلياً، اذا تعذرت معالجتها جذرياً، بحيث يصبح الاعداد للمستقبل المطمئن انجع واجدى.

اذاً ما هي المستجدات في الحالة الدولية التي تجيز فرصة لتقليص القلق العام السائد في مختلف ارجاء الوطن العربي ويتيح معاودة سدّ الثغر التي ادت الى الانقسامات والشرذمة وفقدان التنسيق بين الاقطار العربية وضعف المناعة داخل عدد منها؟
نبدأ بالمشهد الاميركي حيث تميزت ادارة بوش باندفاعها لاملاء سياستها وفرض اراداتها وعدم استمزاج آراء حلفائها وبالتالي تغييب مصالحهم، وتجاوزها لمجلس الامن عندما تريد واستعماله عندما تقتضي اهدافها ذلك. لقد ادت الانتخابات النصفية الى خضوع مجلسي الكونغرس لسيطرة الحزب الديموقراطي، الامر الذي فرمل التمادي الاميركي في خرق الكثير من المواثيق الدولية وحتى استصدار قوانين جائرة.

كما ان حرب ادارة بوش في العراق كانت العامل الارجح لفرملة حالة الانكار التي كانت العامل الرئيسي في انخفاض شعبية الرئيس بوش من جهة، ثم الخروج المتدرج لفريق المحافظين الجدد من العديد من مواقع صناعة القرار من جهة اخرى.
وفي محاولة لاخراج الولايات المتحدة من المستنقع الدموي العراقي تدريجاً، اقترح وزير الدفاع الاميركي الجديد روبرت غايتس تعيين قائد جديد للقوات المسلحة الاميركية الاميرال مايكل مولن بدلا من القائد الحالي الجنرال بيتر بايس.

الا ان الاهم في هذا الموضوع هو ان وزير الدفاع استمزج في الامر الكثير من اعضاء مجلس الشيوخ الذين اكدوا له ان اي اقتراح لتجديد سنتين للجنرال بايس سوف يكون فرصة لمساءلته عن السنوات الاربع الماضية من الحرب في العراق في ضوء تقرير قائد القوات الاميركية في العراق الجنرال بتريوس والمنتظر في ايلول المقبل.

وكانت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي قالت للرئيس بوش: "موعدنا في ايلول" للمحاسبة والمساءلة. مما دفع وزير الدفاع الى ان يضحي بالجنرال بايس واستبداله بالاميرال مولن "بغية رسم سياسة مستقبلية لا لاجترار الماضي"، كما اكد غايتس عندما قدم طلبه الى الرئيس بوش.
كذلك يجد الرئيس بوش في السنة ونصف السنة الاخيرة من ادارته انه ليس متفائلا ومرفوضاً من اكثرية كبرى من الرأي العام الاميركي، بل كذلك من الرأي العام العالمي باستثناء البانيا، كما قالت "النيويورك تايمس" في عددها امس، وترافق وضع الرئيس بوش ظاهرة الابتعاد عنه في اوساط الحزب الجمهوري وخصوصاً عند المرشحين الذين يجمعون على انه اصبح عبئا عليهم بدلا من ان يكون سنداً لهم.

ويعود تركيزنا على المستجد في الحالة الاميركية الى ان سلوك معظم الانظمة العربية بشكل اجمالي، وإن بنسب متفاوتة، تعامل مع الادارات الاميركية وكأن 99 في المئة من الاوراق هي في يدها كما عبر عن ذلك مرة الرئيس الراحل انور السادات. ان هذا التوصيف يجب ان يحفز الديبلوماسية العربية (؟) على سبر غور اعادة تفعيل علاقات مهمة تم تهميشها مع الكثير من دول العالم الآخذة في اعادة هندسة المجتمع الدولي على اساس تعددية القطبية. وعلى العرب ان يساهموا اجمالا في هذا المشروع وخصوصاً مع آسيا واوروبا، والافادة من اكثرية عربية في شمال افريقيا تتمتع بطاقات وعلاقات واسعة في القارتين الافريقية والاوروبية.

ولا يسعنا في هذا السياق تجاهل اقتراح الرئيس الفرنسي الجديد نيكولا ساركوزي الذي دعا الى ندوة حوارية في ما يخص الاوضاع اللبنانية. ولعل ما يميز هذه الدعوة كونها موجهة الى كل الاطياف السياسية. والاكثر مغزى ان الدعوة تشمل ممثلي المجتمع المدني اللبناني. واعتقد ان هذا التوسع في التمثيل من شأنه تعزيز عامل التحفيز اللاطائفي الذي بدونه لن تكون لحمة ناهيك بوحدة وطنية مستدامة.

صحيح ان هذه الايجابية التي اطلقها الرئيس الفرنسي في تعبير عن تقدم في العلاقات مع لبنان – كل لبنان – وتتميز بموضوعية مرشحة لانجاز ممكن وبالتالي نرجو الا تتم عرقلتها، فلبنان في حاجة ماسة الى تمتين وحدته وخصوصاً انه يواجه شبكة من الارهاب يستأهل اجماعاً في الحاضر كي يكون ذخيرة لديمومة التوافق الديموقراطي والوحدة الوطنية. وحبذا لو كانت الدعوة من جهة عربية او من الامانة العامة للجامعة العربية التي لا تزال الجامعة تتصرف كجامعة حكومات لا جامعة دول وهذا ما يفسر كونها في احلك الظروف سجينة اللاحسم، وهذا بدوره يفسر غيابها النسبي عن العراق وكذلك عن الموضوع الفلسطيني. واذا لم نحسن التقاط هذه الاشارات الحاصلة على المستوى الدولي فاننا سنبقى في حالة عجز عن الافادة من فرص انتقال الحرب الباردة، الى الحرب الفاترة.