لماذا فجأة انطلقت التصريحات، والتسريبات الإسرائيلية عن إمكانية مفاوضات سلام مع سوريا؟ عن أهمية مثل هذه المفاوضات؟ وعن ضرورتها في هذه المرحلة؟ هل تبحث إسرائيل من خلال ذلك عن السلام في المنطقة؟ أم أنها تبحث عن ظروف للحرب؟ لأكثر من أسبوع ظل موضوع المفاوضات بين سوريا وإسرائيل من أبرز العناوين التي شغلت الصحافة الإسرائيلية. لكن أهم ما جاء في كل هذه الجلبة هو ما نقلته صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية في تقرير لها يوم الجمعة الماضي من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، "إيهود أولمرت"، بعث برسالة سرية إلى الرئيس السوري، بشار الأسد، يعرض فيها أن تعيد إسرائيل الجولان إلى سوريا مقابل سلام شامل، على أن يشمل ذلك قبول دمشق بإنهاء تحالفها مع إيران، وأن توقف كذلك دعمها لما تسميه إسرائيل بالجماعات الإرهابية، أو "حزب الله" في لبنان، وحركة "حماس" في فلسطين، والفصائل الفلسطينية الأخرى التي تتخذ من دمشق مقراً لها. جاء هذا الموقف، وفقاً للصحيفة، على خلفية اجتماع عقده أولمرت مع مجلس الوزراء الأمني المصغر لحكومته، خصص لمناقشة الوضع في الجبهة الشمالية الإسرائيلية. بعد هذا الاجتماع شكلت لجنة فرعية من عدد من الوزراء لدراسة هذا الملف بشكل أعمق.
كان أولمرت، تقول "يديعوت أحرونوت"، قد اتصل في شهر مايو الماضي، بالرئيس الأميركي، جورج بوش الابن، ليبلغة بأنه قرر أن يستكشف إمكانية إحياء المفاوضات مع سوريا. وقد أعطى بوش الضوء الأخضر لأولمرت، كما تقول الصحيفة، مما شجعه على أن يبعث برسالته السرية إلى الأسد عبر الوسطاء الأتراك والألمان. محاولات استكشاف إمكانية إجراء مفاوضات سلمية بين سوريا وإسرائيل كانت - كما تقول صحيفة إسرائيلية أخرى، "هآرتس"-قد بدأت منذ سنوات، وتحديداً في يناير من عام 2004. تمت هذه المحاولات، والكلام للصحيفة نفسها، من خلال سفير إسرائيل السابق لدى تركيا، "آلون لئيل"، ورجل أعمال أميركي من أصل سوري هو إبراهيم سليمان. لكن هذه لم تفض إلى شيء ملموس. منذ ذلك التاريخ وحتى الآن بقي ما يعرف بالمسار السوري الإسرائيلي مجمداً كما كان عليه منذ قمة جنيف بين الرئيس السوري الراحل، حافظ الأسد، والرئيس الأميركي السابق، بيل كلينتون، في مارس عام 2000.
السؤال في هذه الحالة: ما الذي استجد ودفع بإسرائيل إلى إحياء أهمية هذا المسار فجأة في هذه اللحظة؟ قبل الآن، ومنذ توليه قيادة الحكومة، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي، أولمرت يعارض أية مفاوضات مع سوريا. من ناحيتها كانت إدارة بوش دائماً ما تؤكد على أن الأولوية هي للمسار الفلسطيني، وبالتالي لا ترى ضرورة لبدء مفاوضات مع سوريا في الوقت الحالي. بل والغريب أنه في أثناء الجلبة الإسرائيلية الحالية كررت الإدارة الأميركية الموقف نفسه بداية هذا الأسبوع، مما يتناقض مع ما تقوله الصحيفة الإسرائيلية من أن أولمرت قد حصل على ضوء أخضر من الرئيس الأميركي لجس نبض الجانب السوري!
في سياق التطورات كما هي حتى الآن، يمكن تسجيل الملاحظات التالية. الرغبة الإسرائيلية المعلنة، أو ما يبدو أنه كذلك، لإحياء عملية التفاوض مع السوريين، جاءت بعد اجتماعات ومناقشات بين القيادات السياسية والأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية. أي أن هذه الرغبة وما تبعها من تصريحات ورسائل وتسريبات لم تأت من فراغ، أو بشكل مفاجئ. الملاحظة الثانية، وربما الأهم هنا، هي أن التحرك الإسرائيلي جاء بعد الاتصال والتنسيق مع الإدارة الأميركية، والرئيس بوش تحديداً. السؤال الأهم: هل جاءت مبادرة جس نبض الطرف السوري من قبل الإسرائيليين أنفسهم، وهو ما توحي به الصحافة الإسرائيلية في تغطيتها للموضوع؟ أم أن ما قام به الإسرائيليون تم في الواقع بإيعاز من الإدارة الأميركية؟ الواضح والأكيد أن الحكومة الإسرائيلية تحتاج إلى ضوء أميركي أخضر لأخذ مثل هذه الخطوة. والأكيد الآخر هو تداخل المصالح الأميركية والإسرائيلية في المنطقة، وبشكل خاص حيال الملف السوري وما يرتبط به من قضايا أخرى مثل إيران و"حزب الله" ولبنان. هنا تبرز أهمية الإلتفات إلى توقيت التحركات الإسرائيلية الأخيرة. وهي تحركات تختلف عما سبقها، خاصة محاولات جس النبض التي حصلت عام 2004.
الأبرز والأهم، كما أشير، في هذه التصريحات أن أولمرت أعلن مسبقاً استعداد إسرائيل لإعادة الجولان إلى سوريا مقابل سلام شامل معها. طبعاً يعرف رئيس الوزراء الإسرائيلي أن عودة الجولان كانت ولا تزال الشرط السوري الأول للسلام في المنطقة. فلماذا اختار هذا التوقيت للتلويح بهذا الثمن؟ ولماذا طرحه هكذا بشكل مسبق، وهو أمر لا يتفق تماماً مع الأسلوب التفاوضي الإسرائيلي؟ هل الهدف هنا إضافة شيء من الإغراء لتشجيع السوريين على الإسراع في التفاوض؟ أم أنه إيحاء بمدى جدية الطرف الإسرائيلي، ومدى أهمية المفاوضات بالنسبة لهم في هذه المرحلة بالذات؟ للتعاطي مع هذا وغيره من الأسئلة لابد من ملاحظة أن التحركات والتصريحات الإسرائيلية جاءت ليس فقط بعد اجتماعات ولجان ودراسات إسرائيلية، إنما جاءت أيضاً بعد جملة من التطورات لها علاقة مباشرة بالملف السوري، وبموضوع المسار السوري الإسرائيلي.
يأتي في مقدمة هذه التطورات انتقال محكمة الحريري إلى مجلس الأمن، ثم دخولها حيز التنفيذ بعد فشل الأطراف اللبنانية في الاتفاق على تمريرها من خلال الأطر الدستورية اللبنانية. في هذه الحالة تصبح سوريا أمام حقيقة أن المحكمة أصبحت واقعاً وليست موضوعاً للتجاذبات السياسية. وهذا يعني ورقة إضافية لزيادة الضغط. التطور الثاني فشل الخطة الأمنية الأميركية في العراق حتى قبل حلول موعد اختبار نجاحها في سبتمبر القادم. التطور الثالث ما قاله مدير الوكالة الدولية للطاقة، محمد البرادعي، من أنه قد لا يكون من المجدي حالياً محاولة إيقاف التخصيب الإيراني، لأن إيران وصلت إلى مرحلة امتلاك القدرة الصناعية في المجال النووي. يؤكد ذلك تجاهل إيران للموعد الذي حدده مجلس الأمن بإيقاف التخصيب قبل فرض مزيد من العقوبات عليها. أما التطور الرابع فهو تزايد الاختلافات بين الدول الكبرى التي تصر على وقف التخصيب الإيراني فوراً وإلا فرض العقوبات، وتلك التي ترى منح إيران مزيداً من الوقت، وبالتالي تصر على أنه لا يزال هناك متسع أمام الحل السياسي لهذا الملف.
ما علاقة كل ذلك بالجلبة الإسرائيلية عن إمكانية إحياء التفاوض مع سوريا، وعن استعدادها هكذا لإعادة الجولان إليها؟ الأرجح أن المبادرة في ذلك جاءت من واشنطن، وأنها جزء من محاولات تكثيف الضغط على إيران. الهدف الأساسي من هذه التحركات هو فك التحالف بين سوريا وإيران، ووقف الدعم السوري لـ"حزب الله"، والفصائل الفلسطينية. ترى واشنطن أن هذه أهم خطوة لتكثيف الضغط على طهران. فك التحالف يؤدي إلى إحكام العزلة الإقليمية حولها من حيث أن سوريا هي البوابة الوحيدة أمامها في المنطقة. الهدف الآخر هو أن فك التحالف الإيراني السوري سيجعل من الضربة العسكرية المحتملة لإيران خياراً أكثر قابلية للنجاح. فإيران تعوّل على سوريا وعلى "حزب الله" والفصائل الفلسطينية للوقوف معها في حال تعرضها لضربة أميركية من خلال إشعال الجبهة مع إسرائيل. حلفاء إيران في العراق سيتولون مع الإيرانيين إشعال الجبهة في الخليج أمام الأميركيين. من هنا فإن فك التحالف الإيراني السوري يحيد الجبهة في الشام، ويعطي إسرائيل حرية أكثر للتنسيق مع الأميركيين في حال حصلت الضربة العسكرية لطهران. معنى ذلك أن التحركات الإسرائيلية الأخيرة تجاه سوريا ليست نابعة بالدرجة الأولى من تطورات الوضع في منطقة الشام، بقدر ارتباطها بتطورات المأزق الأميركي في العراق أولاً، وبالموقف الأميركي الإسرائيلي المشترك من تطورات الملف النووي الإيراني. بعبارة أخرى، تهدف التحركات الإسرائيلية إلى استخدام سوريا كورقة ضغط لصالحها وصالح واشنطن. ولذلك من الطبيعي أن الثمن الإسرائيلي الوحيد المطلوب من سوريا مقابل إعادة الجولان هو فك التحالف مع إيران، ووقف دعم "حزب الله" والفصائل الفلسطينية الموجودة في دمشق. مطلب فك التحالف مع إيران جديد، ومرتبط بالتطورات الأخيرة.
اللافت في كل ذلك هو الصمت السوري، وهو لافت لأن ما تقدمه إسرائيل يبدو كما لو أنه ما تنتظره دمشق. لكن الأخيرة لابد وأن تدرك بأن الثمن المطلوب منها ليس أقل من محاولة لدفعها نحو الانتحار السياسي. لأن عزل إيران في هذه الحالة سيؤدي حتما إلى إحكام طوق العزلة حول دمشق نفسها، وسحب كل الأوراق التي بيدها، وبالتالي جعلها تحت رحمة المناورة الإسرائيلية. جاء الرد السوري صحيحاً، وإن كان متأخراً، بأن الجلبة الإسرائيلية حول إمكانية المفاوضات معها ليست جادة. إذا كان كل ذلك صحيحاً، فإن الإدارة الأميركية، ومعها إسرائيل، لا زالت تفكر في الخيار العسكري مع إيران.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)