مشكلة ما يحدث اليوم ليست في طبيعة ما ترسمه الاستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة، إنما في القناعة الاجتماعية عموما بأن الهوية يمكن تشكيلها وفق ما يهوى أصحاب التراث، وأننا نستطيع فهم الدولة على سياق يستذكر الخلفاء الراشدين.

والسيناريوهات الأمريكية، كما بدت في العراق على الأقل، ركبت دولة فيدرالية للطوائف والأثنيات، والتصريحات السياسية في العراق وخارجه ترى أن هذه الديمقراطية هي الواقع الذي لا يمكن تجاوزه.

وما يحدث في غزة ليس بعيدا عن هذه القناعة التي لا تحتكرها حماس كتنظيم سياسي يملك هوية تراثية، بل أيضا الفصيل الآخر الذي أراد منذ "الانتخابات" الديمقراطية إسقاط حكومة حماس على سياق تاريخي يذكرنا بثورة القرامطة والبرامكة والزنج وغيرها.

فالدم الذي يسيل اليوم في غزة يحدث بعيدا عن الصواريخ الأمريكية أو الإسرائيلية، ودون علاقات واضحة ما بين مسألة التسوية والتوتر بين حماس وفتح. فما يحدث حتى ولو أقنعنا البعض أنه ضمن السيناريو الأمريكي، لكنه يتم وفق رغبات وإصرار من الفصائل التي تعمد نفسها اليوم بالدم الفلسطيني.

ربما يشكل التراث جوهر الثقافة الاجتماعية، بكل ما تحمله من تقسيمات قبيلة وطائفة ... وربما يحمل المجتمع كل تطلعات الأفخاذ والبطون والانشقاقات التي بدأت بالخوارج ولم تنته حتى اليوم، لكن الادعاء أن السياسة يمكن أن تستوعب هذا "الزخم" التراثي أمر يحتاج إلى إعادة نظر. وإذا كنا نفهم الدولة وفق تطور النظريات الاجتماعية، وليس طبقا لقاعدة "خليفة الله على الأرض"، فإن صب فسيفساء الطوائف والقبائل داخل هذه المؤسسة سينتج حتما فسيفساء دول، وفسيفساء معارضة، وفسيفساء سلطة سياسية.

المشكلة اليوم هي في الرضى عن الذات، وبأن تجربة أكثر من نصف قرن في محاولات مواكبة العصر لا بد أن تنتهي عند أمراء الطوائف ... والوصول إلى قناعة أن التمثيل السياسي هو "طائفي" ... "أثني" .. "عرقي" ... ولا حاجة لمناقشة مفاهيم الحداثة طالما أنها قادتنا إلى الدولة الاستبدادية أو الانقلابات العسكرية أو حتى انهيار التجارب التنموية.

ضمن العالم اليوم تاريخ طويل من انهيار التجارب دون أن يعني عملية النكوص نحو التراث ... وضمن الفهم المعاصر لم تكن نظريات الحداثة مطلقات وحتميات بل حركة دائمة ... وفي تاريخ الثورة الفرنسية عشرات المطبات التي أنتجت جمهوريات متتالية، بينما توقف إنتاج الملوك عند "لويس السادس عشر" ... أما في الولايات المتحدة فإن الدستور تعرض لكثير من الاختبارات ولم تسير الأمور باتجاه عودتها كمستعمرة بريطانية. اما الاتحاد السوفياتي فانهار وبقي القياصرة تاريخ يتم تقييمه اليوم ... أما مسألة الخلافة ودولة الطوائف فهي مسألة مصيرية اليوم لأن قناعة البعض تدفعه لمحاربة نفسه قبل الصراع من أجل الديمقراطية ...

السيناريوهات الأمريكية قابلة للتحقيق لأننا مقتنعون بقدرتنا على استنساخ الماضي، رغم أن هذا الماضي لم يكن مبهجا كما في حلمنا ... فهو سياق تاريخي وأعفونا من التجربة.