بسهولة غير محتملة يقع الإعلام العربي فريسة أية دعاية إسرائيلية مهما كانت شفافة. فبمجرد أن تنشر «يديعوت أحرونوت» أو «معاريف» أو «هآرتس» أو غيرها خبراً، فإن ذلك يعتبر سبباً كافياً كي ينتشر عربياً مثل النار في الهشيم. الخبر الإسرائيلي ينشر ذاته. فوسائل الإعلام العربية تكرر من دون فحص ونقد ومن دون مقارنة مع ما نشر من قبل، وباتت تتنافس في تكرار ما ينشر إسرائيلياً. فالاعتقاد رائج أنه إعلام ديموقراطي تعددي مستقل، وإذا أخطأ فهو يخطئ بحسن نية!

أما أن إسرائيل نفسها قد نشرت أن لديها وحدة في الاستخبارات العسكرية هدفها نشر الإشاعات في العالم العربي، وأنها تستغرب سهولة ويسر تحقيق هذا النشر بحاملات عربية ساذجة، فهذا ما يغفل الإعلام العربي أن يكرره.

وقد يتجذر ما ينقل عن إسرائيل كلغة ومعلومة في الثقافة السياسية. ولا يوجد هنا متسع لحصر الظاهرة وتعداد هذا النوع من المصطلحات الإسرائيلية الأصل. ولكن غالبا ما يتبين أن النشر الإسرائيلي مغرض أو كاذب بعد أيام فقط من تكراره عربياً ومباشرةً بعد مباشرةِ التنظير ونشر التعليقات المعتمدة عليه، ونكاد لا نجد صحافياً أو محللاً عربياً ممن سقطوا في الفخ يعترف بالخطأ ويحذر نفسه وغيره من الوقوع فيه مستقبلاً. فالصحافيون في الحالات الجيدة يحاسبون السياسيين، ولكن من يحاسب الصحافيين؟ في الحالة الديموقراطية من يحاسب هو النخبة المثقفة من القراء التي لا ترحم في نقدها، والمحاسب هو الأخلاقيات الصحافية التي لا ترحم في نقدها الذاتي.

دفعني إلى هذا المقال عنوان مفاجئ في «يديعوت أحرونوت» قبل أيام (9 حزيران/ يونيو) أن أولمرت بعث برسالة إلى الرئيس بشار الأسد يبلغه فيها استعداد إسرائيل للانسحاب الكامل من الجولان وانه ينتظر رده، وهل لديه نية في السلام؟ تداول العنوان يحمل إرادة إسرائيلية مفروغاً منها بالسلام واختباراً لا يتوقف للنيات السورية... وهذا بحد ذاته موقف لا بأس من ترويجه.

ورغم ان هذا العنوان المفاجئ لا ينسجم، لا مع الموقف ولا الواقع ولا الصورة الإقليمية، إلا أن هذا لم يحل دون تحوله أساساً لتنظيراتِ نهارٍ صيفي عن مأزق أولمرت ورغبته في السلام. لقد تم التعامل بشكل غير حذر مع عنوان من مصدر مجهول في صحيفة إسرائيلية. ولو صدر ذلك عن مسؤول على الأقل، حتى لو كان إسرائيلياً، لشفع ذلك للتعامل الساذج. ولكن لا «يديعوت» ولا «هآرتس» أو «معاريف» تشكل مصدراً. وما لبثت أن توالت التكذيبات، من سورية ومن إسرائيل.

وقبل اسبوع من اليوم كتبنا في هذا المكان نفسه أنه يتوقع زيادة الإلحاح على سورية بسياسة العصا والجزرة، واستغلال ما تفترض إسرائيل من دوافع سورية في ظرف إقرار المحكمة الدولية للانفتاح عليها بشروط مواتية لإسرائيل قبل التفاوض، ومنها مثلا جس نبض إمكانية شق تحالفها مع إيران إقليميا... أي الانتقال من شروط سورية للتفاوض إلى شروط إسرائيلية مسبقة. ويتابع المسؤولون الإسرائيليون تسريب الأسئلة الإسرائيلية حول خطط سورية في المنطقة وأمنها وجيشها وعلاقاتها مع إيران والفصائل الفلسطينية و «حزب الله» وغيرها، وكل ذلك من دون تعهد بالانسحاب الشامل بل بتأكيد إسرائيلي عام يتم تسريبه أن الأخيرة تدرك ثمن السلام مع سورية.

سابقاً جرى التسريب إسرائيليا عن رئيس سوري يكرر رسائل السلام الى إسرائيل كلما قابل أحدا. الوسيلة حاليا هي رمي الكرة في الساحة السورية بأن إسرائيل أرسلت اقتراحات ورسائل. بذلك يريح أولمرت نفسه من ضغط الرأي العام للبدء بمسار سياسي ناجح خوفاً من تدهور الأمور إلى حرب خاصة بعد فشل العدوان على لبنان.

ولم يوفر الإعلام الاسرائيلي لا الأتراك ولا الألمان وأخيراً اليونان. لم يبق أحد. لا يجتمع مسؤول مع الرئيس السوري الا ويدّعي الإعلام الإسرائيلي أنه يحمل رسائل من إسرائيل. وطبعا كان أي منهم سيفرح لو اتيح له لعب دور من هذا النوع. ولكن أي كلام يصبح رسالة إذا شاءت إسرائيل أن تسرب. فمجرد ان يستمع شخص الى تحليلهم ثم ينقل انطباعه هو كما يفعل الناس عادة عن هذا التحليل فإن هذا يكفي في عرفهم لتسريب أنه يحمل رسالة. مع ان هذه في لغة السياسيين تسمى اجتماعاً، وقد لا يكون حتى اجتماعا وديا، بل مجرد اجتماع يستمع فيه المرء إلى وجهات النظر المختلفة. الرسالة هي موقف ملزم الهدف من قوله هو نقله الى الطرف الآخر والاستماع الى جواب. أي أن الرسالة تتطلب أن يتفاعل معها الطرف الآخر كأنها رسالة. ولا يفترض ان يدخل السوريون في مثل هذه اللعبة إذا لم يسبقها تعهد إسرائيلي بالانسحاب من الجولان... لأنها لا تعني إلا مفاوضات سرية. وبوجود وزراء خارجية أجانب وفي بلد مثل إسرائيل تعمل فيه التسريبات الصحيحة والعارية عن الصحة من نسج خيال المسرب كأداة في النقاش السياسي الداخلي تعني السرية فقط علنية مؤجلة.

مكتب رئيس الحكومة أو هذا الجهاز الأمني أو ذاك يسرب للإعلام. الإعلام يتواطأ، نعم في إسرائيل أيضا، بل في إسرائيل بشكل خاص. وينشر «الخبر» مقابل الحصول على السبق حتى لو كان الخبر عارياً عن الصحة. فالإعلام يبرئ ذمته من كذب الخبر بنسب التسريب الى مصدر مقرب، أو يتواطأ مقابل «خدمة» سابقة قدمت له وهكذا. وهنالك صحافيون مشهورون في إسرائيل مرتبطون بأجهزة أمنية، ونكاد نعرف ان فلانا مرتبط مع مكتب رئيس الحكومة وفلان مع «الموساد» وآخر مصادره «شاباكية»، وآخر يتلقى تسريبات بعين غير فاحصة من وزارة الخارجية. وقد ينشر عن قصد ويكون طرفاً واعياً في فبركة شائعة، اذا كان هنالك هدف وطني قومي للإضرار بتنظيم عربي أو دولة عربية أو حتى شخصية عربية مثلاً... وثمة صحافيون غير مرتبطين بجهات محددة ولكنهم يندفعون بدوافع مثل الرقابة الذاتية في القضايا الوطنية لعدم نشر أمر مسيء لإسرائيل، أو يندفعون بالوطنية لنشر شائعة أو بالرغبة بالإثارة والشهرة وهكذا. وطبعا هنالك استثناءات، ولكنها قليلة.

يحتوي الإعلام العبري على معلومات صحيحة وقيمة، وهي لا تحرر من أجل العرب، وبالإمكان ويجب الاستفادة منها. ولكن العقل السليم وحده، وليس معادلة أو وصفة من اي نوع، كفيل بفصل القمح عن الزوان عند تناول خبر. لهذا وجد الحس السليم عند الإعلامي الجدي. وهذه رسالته للجمهور. فالإعلام حتى لو كان خاصاً هو جزء من الحيز العام ويحب ان يلتزم بقواعد حد أدنى من المهنية يفرض بعضها القانون في الدول المتحضرة وتفرض غيرها الأخلاقيات الصحافية، وتعارضها جميعا قوانين العرض والطلب وتحول السياسة أيضا إلى صناعة التسلية، بما فيها الدراما والمشهد.

لا توجد هنا نظرية مؤامرة، فالإعلام الإسرائيلي ليس نتاج تقسيم ادوار. بل نحن إزاء إعلام متعدد الميول في القضايا الداخلية ومجند في القضايا الوطنية، وتنافسي استهلاكي على سوق التسلية والإثارة والمشهد. نحن إزاء إعلام مصادره غالباً رسمية أو في المعارضة الرسمية، وفي حالة مثل إسرائيل، المعارضة هي جزء من الدولة في كل ما يتعلق بالقضايا القومية والأمنية وغيرها. ولا يرى الإعلام غضاضة في التعاون مع أجهزة أمنية، فهو وهي مكونات للقبيلة نفسها، والصحافي او ابنه خدم في الأجهزة أو يخدم فيها، ولا مسافة فعلية تفصله عنها. وأخيراً نحن إزاء إعلام مجند معبأ في زمن الحرب.

ومنذ ان اختارت بعض القوى السياسية العربية السلام «خيارا استراتيجيا» كما تدعي، لم تعد أكثر اهتماما بالتطورات السياسية الداخلية في أميركا وإسرائيل بل باتت رهينة هذه التطورات للأسف. وتورطت وباتت تبالغ في الاعتماد على تفاصيل وطُرف وبدع وحكايا إعلام هذه الدول وأهوائه، من دون ان تكون جاهزة لفرز هذه المعلومات قبل هضمها. والأخطر انه تم تبني لغته وتعابيره في وصف الحال العربية والصراع. والقوانين التي تحكم عمل الإعلام في غالبية الدول العربية ليست هي القوانين التي تحكم عمل الإعلام العبري... ولذلك يسقط المستهلك العربي الجديد بين تفسير مؤامراتي لسلوك الإعلام الإسرائيلي وبين تصديق كل ما يرد من هناك واعتباره مصدرا يعتمد عليه.

ومن مظاهر أوسلو الذي كسر كل المحرمات من دون أي مكسب حقيقي، وساعد على التطبيع عربياً دون إنجاز للفلسطينيين، أن تنشر الصحافة العربية بشكل منهجي ومستمر من دون توقف، مقالات عبرية مترجمة إلى العربية لا تعرف الغاية من نشرها هل هي «أعرف عدوك» أم تطبيع؟ وفي الحالتين يرتكب خطأ جسيم، فمثل هذه الترجمات يفترض ان تُعًّد للصحافيين وهيئات التحرير ليستفيدوا منها كمصدر لا لينشروها كما هي لملء الصفحات، ولتعريض الجمهور لفوضى نصوص لها معنى في السياق الإسرائيلي. أما نشرها في السياق العربي من دون تعليق أو مقدمة، ومن دون انتقاء ومن دون خبرة أو مقاييس ومن دون تمكين الجمهور من الفصل بين الغث والسمين، فهو تعريض الجمهور للدعاية الإسرائيلية ولغتها فقط.

بشكل يكاد يكون روتينيا ويوميا يتم تعريض الجمهور للدعاية الإسرائيلية من دون مساعدته حتى في فهم من هو الكاتب وهل يسرب إشاعة مخابراتية «شاباكية»، وهل هو يساري «متطرف» معاد للصهيونية او يمثل طرفاً فعلياً.

ليست في إسرائيل صحيفة واحدة تترجم وتنشر مقالاً عربياً كاملاً ولو مرة واحدة في العام. لا بد ان ثمة سبباً يدفعها لعدم فعل ذلك، وليس لهذا السبب علاقة بالديموقراطية، فالنشر العربي للدعاية الإسرائيلية ومنع نشر مواقف عربية في الوقت ذاته وشطبها أو تعديلها في الإعلام نفسه ليس دليل ديموقراطية عربية.