تشهد المنطقة العربية جملةً من الأزمات المتراكمة زمانياً والمتفاعلة مكانياً، وهي في معظمها أزمات تحمل سمة الثنائية في مظاهرها وفي أسبابها أيضاً.فبعض الأوطان العربية يعاني الآن من ازدواجية خطر الاحتلال أو التدخّل الخارجي إضافةً إلى خطر الصراعات الداخلية، بل ربّما مخاطر الحرب الأهلية. فهي هنا ثنائية مشكلة تحدّيات الخارج وانقسامات الداخل.

أوطان عربية أخرى تمرّ في ظروف سياسية تبرز فيها أعطاب الحكم والمعارضة معاً. فلا الناس راضية عن الحاكم ولا هي مقتنعة أيضاً بالمعارضة البديلة. فهذه أوطان تعيش ثنائية مشكلة الحكم والمعارضة معاً.حتى في البلاد التي لا تعاني من ثنائية تحدّيات الخارج وانقسامات الداخل، أو من ثنائية أزمة الحكم والمعارضة، نجد ثنائية الاختلال في ميزاني العدل السياسي والعدل الاجتماعي.

وهناك ثنائيات تشترك فيها عموم المنطقة العربية، خاصّةً حينما يتعلّق الأمر بالمسائل الفكرية والثقافية وكيفية فهم الدين والهُويّة الوطنية والقومية، بل إنّ هذه الثنائيات العربية المشتركة هي الحاضن الآن لكثير من الأزمات الوطنية أو الإقليمية، فثنائية التطرّف في الفكر والأسلوب هي اللون السائد الآن على معظم الحركات السياسية العاملة بأسماء دينية وطائفية، لكن المشكلة ليست فقط لدى أصحاب الفكر الديني وأساليبه بل هي أيضاً لدى أصحاب الفكر العلماني وما هم عليه من ثنائية القصور في الفكر والتقصير في الأساليب.

أيضاً، في سياق «الأزمات الأم» نلمس الآن ثنائية أزمة الهوية حيث أصبحت الهوية الوطنية وكأنّها نقيض للهوية القومية وفي مواجهتها. كذلك أضحت الأولوية للانتماءات الطائفية والمذهبية، وعلى حساب الانتماء إلى الدين الواحد والقيم الدينية المشتركة.

هذه الثنائيات في المشاكل والأزمات العربية هي ليست وليدة الحاضر أو الماضي القريب فقط، بل هي محصّلة لتراكم كمّي في الأوضاع السياسية على امتداد شريط زمني طويل، نحصد نتائجه حينما تشتدّ تحدّيات الخارج إذ تظهر أكثر جليّاً أمراض وأعطاب الداخل في مواجهة هذه التحدّيات.

لكن دروس التاريخ تعلّمنا أيضاً أنّ المنطقة العربية هي نهر جارف لا بحيرة راكدة. وهذا ليس بخيار لأبناء هذه الأمَّة، بل هو قدرها المحكوم بما هي عليه من موقع استراتيجي مهم، وبما فيها من ثروات طبيعية ومصادر للطاقة، وبما عليها من أماكن مقدّسة لكلِّ الرسالات السماوية. فحتى لو اختارت بعض شعوب الأمَّة العربية العزلة عن جوارها وعن العالم المحيط بها، فإنّها لا تقدر على ذلك بسبب خيارات القوى الأخرى الإقليمية والدولية التي تطمح إلى السيطرة على ما في هذه البلدان من خيرات.

ثمّ إنّ الصراعات بين القوى الإقليمية والدولية وتنافسها على المنطقة العربية، يزيد من هدير هذا النهر الجارف في المنطقة. فالسؤال إذن هو ليس حول حدوث التغيير فيها أو عدمه، بل عن نوعية هذا التغيير ومواصفاته واتجاهاته، وعن أطرافه المستفيدة أو المتضرّرة، سواء محلّياً أو خارجياً، فالصراعات والتحدّيات وحركة التغيير، هي قدر الأمّة العربية، لكن ما يتوقّف على مشيئتها وإرادتها هو كيفيّة التعامل مع هذه التحدّيات، وهو أيضاً نوعية التغيير الذي يحدث على أرضها وفي مجتمعاتها.

إنّ واقع الحال العربي الآن لا يحمل رؤية عربية مشتركة فاعلة لمستقبل أفضل، ولا يقوم على مرجعيات فكرية وسياسية سليمة في معظم الأحيان والحالات. فهناك إمّا استسلام للأمر الواقع ولإرادة الخارج الذي تتحكّم فيه الآن دولياً وإقليمياً عقائد ومصالح تقوم على نهج العنف والتطرّف، أو تصدٍّ في المقابل لهذا الواقع من خلال فكر يقوم بمعظمه هو أيضاً على التطرّف واعتماد أسلوب العنف.

وهنا خطورة هذه الثنائية في نهج التطرّف والعنف بين الضارب والمضروب معاً، وفي حالتيْ مواجهة أطماع الخارج أو التعامل مع سلبيات الداخل.إنّ مشكلة «ثنائيات الأزمات» لا تعني بالضرورة انتظار الحل لطرفيْ كل أزمة، أو المراهنة على وضع تتساقط فيه الثنائية في كل معضلة.

فالنجاح في تعطيل طرف سيؤدّي حتماً إلى إضعاف الطرف الآخر من «عصيّ الأزمات الثنائية»، والعكس صحيح أيضاً. إذ بمقدار ما تشتدّ الأزمة في طرف ما، فهي تساعد الطرف الآخر بالمقدار نفسه على تحقيق مآربه. هكذا هو الأمر في العراق وفلسطين ولبنان حيث ثنائية أزمة دور الخارج مع أزمة صراعات الداخل.

أيضاً، ليس هناك من بداية واحدة فقط لمعالجة كل هذه الثنائيات المتأزّمة في المنطقة العربية، فأي نجاح في تفكيك أزمة هو عنصر مهم للمساعدة في حل باقي الأزمات، لكن المدخل السليم لأي عمل ناجح هو توفّر الفكر السليم الذي يقود هذا العمل ويحرّك طاقات القائمين به. فالأمّة العربية تحتاج الآن إلى رؤية فكرية مشتركة تحسم الخلل والتناقض المفتعل بين هُويات مختلفة لأوطانها ولشعوبها، بحيث يتعزّز معاً، وفي وقتٍ واحد، الولاء الوطني على حساب الانتماءات الضيّقة الأخرى، كما هو مؤمّل أيضاً على صعيد الهُويّة العربية ومجالات التعبير المختلفة عنها داخل المجتمعات وبين الحكومات.

إنّ كثيرين من أبناء الأمّة يتشكّكون الآن من هُويتهم العربية وممّا هو مشترك بين بلدان هذه الأمّة، دون إدراك منهم أنّ ما هو قائم من وضع سلبي لا يعبّر أصلاً عن العروبة نفسها. فالحديث هو عن «أمَّة عربية» بينما هي أوطان وحكومات متعدّدة، وأحياناً متصارعة، بينما المتعاملون مع هذه الأمّة العربية من قوًى إقليمية ودولية هم أمم موحّدة بكل معاني التوحّد أو التكامل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري. فلو أنّ حال هذه القوى كان شبيهاً بحال العرب الآن، لما استطاعت أصلاً أن تشكّل تحدّياً أو خطراً على غيرها.هنا نفتقد «ثنائية وحدة الأمم»، فالعرب أمّة منقسمة تتعامل مع أمم متحدة

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)