اعتاد الناشطون في الشأن العام السوري، وتحديداً في الحقل السياسي، اعتماد مبدأ القياس أثناء مقارنتهم راهن سوريا بواقعها الذي كان إبان أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي ليصلوا إلى نتيجة مفادها إن الماضي كان نعيماً قياساً على الحاضر!
لا شك في أن الماضي ـ والفترة التي حددناها أعلاه خصوصا ـ كان المرحلة الذهبية التي عايشها الداخل السوري، لا من جهة الحراك السياسي فحسب بل كذلك من جهة الرخاء على الصعيدين الاقتصادي والثقافي. نقول هذا وان كنا نؤمن بوجود فساد سياسي ووظيفي لدى بعض الطبقة الحاكمة في تلك المرحلة، وهو فساد قد يرقى إلى مستوى الخيانة الوطنية لا سيما إذا ما أخذناه في السياق التاريخي للمرحلة التي نعنيها، لا قياساً براهننا.
بالعودة إلى المعارضة السورية ومنطق القياس الذي نلخصه بالسؤال الآتي: هل يمكننا فعلاً استخدام القياس (بمعناه السياسي) كي نرى كم نحن تأخرنا عما كنا عليه في ما سبق من زمن؟! يمكننا طرح السؤال بشكل مباشر: هل من الحكمة استخدام القياس بين فترتين زمنيتين متباعدتين أفرزتا واقعين مختلفين؟ بمعنى آخر هل الواقع الذي أفرز الحراك الذي نعنيه في سوريا (وسواها من بلدان عربية) هو ذاته الواقع الذي نشهده الآن؟ تُرى ألم تطرأ تغيرات وتبدلات في العالم من حولنا وفي داخلنا السوري كذلك كان من شأنها أن ساهمت في تغيير الواقع ومعطياته (سلباً أو ايجاباً) ما يجعلنا بالتالي نرفض مفهوم القياس الذي نحن بصدده!
لا غضاضة من التذكير بوجود اتحاد سوفياتي كان قوياً بقدر ما كان نصيراً للدول المستضعفة أواسط القرن الماضي، ولا بأس من التذكير بأن حركة المد القومي العربي والحركات العلمانية كان لها الحضور الأقوى (حتى 1967 على الأقل) داخل بلدانها ومن ضمنها سوريا بالتأكيد، على نقيض حضور الحركات الإسلامية التي كانت تحاول ما استطاعت أن تواكب انفتاح الحركات العلمانية والقوى اليسارية بما لا يخل بـ«ثوابتها»، ومنهم جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، ولنتذكر أن واقع الأربعينيات والخمسينيات كان ينطوي على إمكان تحقيق وحدة عربية!، ما سلف ذكره ـ وهو على سبيل المثال لا الحصر ـ لا يتوفر منه شيء على أرض الواقع راهناً!
ولا مبالغة في القول إن الواقع السوري ـ شأنه شأن أي واقع عربي ـ لا ينطوي على امكانات من شأنها أن تنتج قوى مجتمعية جديدة تساهم في عملية التغيير المنشودة وفي بث الحراك السياسي والاجتماعي المأمول والمرتجى! ومع شديد الاحترام للقوى المعارضة في سوريا الآن ولنبل مقاصدها، لا نكون قد تجنينا عليها حال قلنا إن البيئة المجتمعية والثقافية التي أفرزتها هي ذات البيئة التي أفرزت البنية الفوقية الحاكمة والمسيطرة التي تشكو منها ومن تسلطها! فبالتأكيد ليست المعارضة السورية وليدة بيئة أوروبية وَرثت تقاليد ديموقراطية عريقة، تماماً كما أن النظام السوري لم يأت إلينا من كوكب آخر!
وان كان لا بد من مجاراة البعض في القياس، نستطِع القول: إن مرحلتي الأربعينيات والخمسينيات من القرن الآفل لم تشهدا تطرفاً من قبل الحركات الإسلامية، أو بعضها، كالتطرف الذي نشهده اليوم، وهو تطرف بلغ حد قطع الرقاب بطريقة تدعو للتقزز والنفور بالحد الأدنى لا سيما من بعد تصويرها وتوزيعها على مواقع الانترنت! وكذلك لم تشهد تلك المرحلة إنشاء فرق للموت (كالتي تصول وتجول في العراق) ولا امتهان تفجير السيارات وتفخيخها (كالتي سادت سوريا ثمانينيات القرن الماضي والعراق الآن). قبالة ذلك لم تكن الكيانات العربية الناشئة سنتذاك والتي كان ثمة فسحة من الأمل في أن تغدو دولاً قد تحولت إلى أنظمة سلطوية مافياوية!
وقد يقول قائل إن النظام في سوريا هو المسؤول عن المد الإسلامي داخل البلاد من خلال احتكار النظام للسياسة وتضييقه على الناشطين والمثقفين الفاعلين، وفي هذا القول جزء من الحقيقة غير أنه ليس الحقيقة كلها، إذ إن مسألة المد الإسلامي حالة أكبر من أن ينشئها نظام ما، وان كان بمقدور هذا النظام أو ذاك توجيهها وتوفير البنى التحتية لها واستيعابها إلى حين، فليس سراً أن الحالة التي أنشأها التيار الإسلامي من أقصى يمينه إلى أقصى يساره أتت على أنقاض هزيمة المشروع العربي النهضوي الذي أصيب بالضربة القاضية في هزيمة .1967 فما بالنا إذا ما أضفنا ان عوامل أخرى خارجية تتعلق بالفوارق الحضارية غذت هذا المد!، انطلاقاً مما سلف نجد إحالة المعارضة السورية (أو بعضها) ـ إبان استخدامها لمفهوم القياس ـ ظاهرة المد الإسلامي إلى النظام وحده فيها الكثير من القسرية والتجني، وهي في الوقت ذاته تنم عن فشل وعجز هذه القوى عن إيجاد بنية تحتية وحاضنة مجتمعية لها.
وفشل المعارضة في ما عنينا لا مثيل له سوى فشل مشروعات العلمانيين في البلاد قبيل هزيمة حزيران وكذلك فشل الأنظمة العربية (اليسارية تحديداً) في خلق مشاريع تنموية وإيجاد بنى تحتية متطورة من شأنها أن تنهض ببنية المجتمع وصولاً إلى مجتمع تضمحل فيه الولاءات القبلية والعشائرية قبالة الولاء للدولة والوطن، ولعمري من الجائر أيضاً تحميل ذلك الفشل إلى الأنظمة مفردة، أياً كانت هذه الأنظمة.
من جانب آخر، وكي لا اتهم بالتجني على المعارضة، نزعم أنها لم تتواضع فتنهمك في مشاكل المواطن السوري وهمومه المعاشية اليومية، ومن يتابع بياناتها يجد احتفاءها الكبير بمقارعة قانون الطوارئ الذي ربما غالبية الشعب السوري (كانت) تجهله!، ويمكننا هنا ذكر مثال بسيط على تقاعس المعارضة السورية وابتعادها عن هموم المواطن اليومية بالبلديات التي هي أكثر المؤسسات (كما هو مفترض) التصاقاً بحياة المواطن شبه اليومية، سنجد أن المعارضة السورية لا تولي أي اهتمام فيها ويشاطرها المواطن السوري المجافاة ذاتها، ربما هذا ما يفسر لنا أن أي مواطن أو معارض أو سياسي سوري يعرف اسم رئيس أي دولة عظمى في العالم لكنه في الوقت ذاته لا يعرف من يكون رئيس بلدية الحي الذي يسكن فيه! ولا أدري إن كان الجواب عن المثال البسيط الذي طرحته، ويقيني أنه يختزل بين طياته الكثير، سيكون من قبل البعض انه حتى في مرحلتي الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي لم يكن المواطن السوري يعرف اسم رئيس بلدية حيه لكنه كان يسمع بأيزنهاور!.

مصادر
السفير (لبنان)