بعد فترة من الهدوء، عاد التصعيد ليكون سيد الموقف في العلاقة التركية ــ الكردية، ففي الداخل وتحديداً في مناطق جنوب تركيا وشرقها باتت أخبار المواجهات بين الجيش التركي وعناصر حزب العمال الكردستاني تحتل واجهة وسائل الإعلام التركية بدلاً من الحديث عن مسار الانضمام إلى العضوية الأوروبية. وفي الخارج ثمة حرب متعددة الجوانب تدور بين تركيا وأكراد العراق، تبدأ من مشكلة وجود عناصر حزب العمال الكردستاني في كردستان العراق مروراً باقتراب موعد حسم معركة مصير كركوك، وليس انتهاءً بمخاوف تركيا من ولادة دولة كردية هناك، تنعكس بظلالها على أكراد تركيا وتطلعاتهم القومية التي تتجاوز حدود الدولتين. واللافت في التصعيد التركي هذا، لهجة الندّية لأكراد العراق الذين يشعرون وربما للمرة الأولى أنهم يملكون من القوة والدعم الأميركي العلني، ما يكفيهم لعدم الرضوخ للتهديدات والضغوط التركية الهادفة إلى إشراكهم في عملية عسكرية مشتركة ضد معاقل حزب العمال كما كانت الحال في منتصف التسعينيات، في حين اللافت على الجبهة التركية أن هذا التصعيد يأتي مع تفجّر أزمة بين القوى العلمانية وقوى الإسلام السياسي منذ أن وقف الجيش ضد تولّي وزير الخارجية التركي عبد الله غول منصب رئاسة الجمهورية، ويأتي قبل نحو شهر من الانتخابات البرلمانية المقررة في تموز المقبل فيما لم يعرف بعد كيف سيُنتخب رئيس الجمهورية بعدما تحولت الانتخابات الرئاسية إلى أزمة دستورية بعد التعديلات التي أقرّها البرلمان والقاضية بانتخاب الرئيس بشكل مباشر من الشعب بدلاً من البرلمان، ولا يخفى على أحد أن تفجّر الأزمة بين حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان والجيش حول المشكلة الكردية وتحوّلها إلى ما يشبه بورصة للمزايدة بين الجانبين، إذ إن البعض يرى في توجيه الأنظار إلى الخارج نوعاً من تصدير الأزمة الداخلية إلى الخارج، وقسماً ثانياً يرى أن العودة إلى النهج الأمني هي رسالة غير مباشرة من الجيش إلى قادة حزب العدالة والتنمية، مفادها أن القرار الاستراتيجي للبلاد ما زال بيده وأن على قادة الحزب المذكور حساب هذا الأمر في الانتخابات الرئاسية.. بينما يبدو أن أردوغان وجد في خيار الجيش هذا وسيلة لدفعه نحو مستنقع يخسر فيه صدقيته، وإلا كيف يمكن فهم دعوة أردوغان المبطّنة للجيش بشنّ عملية عسكرية في شمال العراق لملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني، وذلك عندما أعلن استعداد البرلمان تقديم الدعم اللازم إذا تقدم الجيش بطلب إذن منه للقيام بمثل هذه العملية، فيما يعرف أردوغان قبل غيره أن الجيش التركي عندما يقرر القيام بعملية عسكرية في شمال العراق لن يعلم بها إلا عدد قليل من كبار المسؤولين، وعليه نظر المراقبون إلى دعوة أردوغان للجيش بكثير من التشكيك طالما أنها صدرت عن رجل عُرف بالعقلانية واتّبع الوسائل الديموقراطية لحلّ مشكلات بلاده في الداخل ومع الخارج، وهو الذي ذهب إلى مدينة ديار بكر معقل أكراد تركيا وعاصمتهم قبل أشهر قليلة، وقال من هناك: «إن القضية الكردية في تركيا، هي قضية الديموقراطية، وهي قضيتي، وسأحلّها بالطرق السلمية..».
ولعل ما يرجّح الاعتقاد أكثر في هذا الخصوص، أن أردوغان يدرك أن القيام بعملية عسكرية في شمال العراق مسألة تتجاوز الأبعاد الداخلية للأزمة التركية الداخلية إلى الحاجة إلى موافقة الحليف الأميركي لتركيا وهي غير موجودة حالياً، بل مرفوضة طالما أعلنت الإدارة الأميركية منذ احتلالها العراق رفضها لأي تدخل إقليمي في الشؤون الداخلية للعراق، والرفض نفسه هو موقف الحكومة العراقية وكذلك الحكومة المحلية في إقليم كردستان، بل إن أكراد العراق أعلنوا مراراً استعدادهم لمواجهة أي هجوم عسكري تركي على مناطقهم. والأهم من كل هذا، كيف تصدر مثل هذه الدعوة من رجل يقول إن المشكلة الكردية سياسية ويعرف سلفاً أن أية عملية عسكرية لن تؤدي إلى حلّها بل إلى المزيد من التأزّم، والسؤال هنا، طالما يعرف أردوغان كل هذه العقبات والأبعاد، لمصلحة مَن يدعو الجيش إلى القيام بعملية عسكرية في شمال العراق؟ وما هي حساباته السياسية من وراء ذلك؟ وهل للمسألة علاقة بمعركة الانتخابات التركية الرئاسية والبرلمانية؟ والأهم هل يريد توريط الجيش في عملية خاسرة يكسب من ورائها أردوغان معركة الانتخابات ويحقق ثورة بيضاء في البرلمان والرئاسة والحكومة معاً؟
بغضّ النظر عن هذا البعد الداخلي للأزمة الداخلية الذي يظهر على شكل تواصل علني ــ خفيّ للصراع المتجدّد بين «الإسلام» و«العلمانية»، فإن ثمة مؤشرات قد تترتب عليها تداعيات خطيرة على الأمن في المنطقة إذا ما اجتاحت تركيا شمال العراق بعدما حشدت عشرات آلاف من جنودها هناك، ولعل في مقدم هذه التداعيات أنه في ظل عدم وجود موافقة أميركية وعراقية لأي تدخّل عسكري تركي في شمال العراق فإن مثل هذا التدخل قد يؤدي إلى اختلاط الأوراق في المنطقة ككل، وربما الدفع بدول أخرى في هذا الاتجاه وتحديداً إيران التي ترى نفسها معنية بقوة إزاء ما يجري في العراق ولها حساسية خاصة تجاه تركيا ودورها هناك، لأسباب تاريخية وسياسية واجتماعية وأمنية، فضلاً عن أنه ينبغي عدم الاستهانة بالعامل الكردي ككل وتأثيره في الأمن والاستقرار في تركيا.
في الواقع، منذ الاحتلال الأميركي للعراق تبدو السياسة التركية تجاه العراق في محنة حقيقية، فهي من جهة تبدو أكبر الخاسرين من هذا الاحتلال بعدما سقطت خطوطها الحمر أمام الصعود الكردي، ومن جهة ثانية باتت أمام دولة كردية تُؤسس بالتقسيط على أرض الواقع، ومن جهة ثالثة باتت أمام حليف أميركي لا يقلّ اهتمامه بالأكراد عن اهتمامه بتركيا ودورها في هذه المرحلة، ومن جهة رابعة تحول العراق إلى موقع للنفوذ والتأثير الإيرانيين، ومن ثم إلى ساحة للتجاذب والحوار بين طهران وواشنطن، ربما للاتفاق على ما بعد الاختلاف... مع هذا الوضع تبدو تركيا أمام أزمة خيارات متباينة ومتناقضة، بين من يرى بضرورة مراجعة السياسة التركية التقليدية إزاء أكراد العراق والدخول في علاقة مباشرة معهم انطلاقاً من متغيرات مرحلة ما بعد صدام حسين ورؤية المصالح التركية، ومن يرفض مثل هذا الخيار ويصرّ على الإبقاء على الخيار العسكري... إلى درجة يمكن القول إن هذا التباين تحول إلى خلاف تركي ــ تركي بين المؤسستين السياسية والعسكرية وسط تأييد أميركي للأولى التي يبدو أنها بدأت تنجح وبشكل تدريجي في سحب البساط من تحت أقدام الجيش، وخاصة مع تحول الجيش إلى ما يشبه موقع للأصولية العلمانية مقابل قوى إسلامية الهوية تاريخياً تعرف كيف تتقن الخطاب الديموقراطي وتلعب لعبة الديموقراطية، فيما تبقى تركيا بحاجة إلى المزيد من العقلانية للتخلّص من عقدتها التاريخية (مشكلتها الكردية)، ما دامت تقول إن نموذجها الديموقراطي يمكن الاحتذاء به من قبل دول المنطقة.