هكذا درجت العادة. لكي تقف موقفاً شجاعاً مع الحقيقة، تكتب استقالتك أو وصيتك أولاً، كما فعل المبعوث الدولي إلى الشرق الأوسط الفارو دي سوتو. أو تفعل ذلك عندما تشعر بأنه لم يبق من العمر أكثر مما مضى، كما فعل الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر. هذا ينطبق على الوظيفة، ولو كنت في أكبر منظمة دولية كالأمم المتحدة، أو كنت في دائرة صغيرة من بلاد «فسادستان»

ألفارو دي سوتو، الذي كان محبطاً في آخر مرة ظهر فيها أمام مجلس الأمن الدولي من عدم تحقيق أي تقدّم في التسوية في الشرق الأوسط، قدّم استقالة مدوّية. كان يعلم بأن تقريره الأخير عن سير العملية السلمية في الشرق الأوسط سيُحال إلى وكيل الأمين العام للشؤون السياسية لين باسكوا ليحرره على طريقته قبل إحالته على الأمين العام لعرضه على أعضاء مجلس الأمن الدولي.
وباسكوا مسؤول كبير ينحدر من مدرسة أميركية عريقة. فاختار دي سوتو، الذي استقال في الخامس من أيار الماضي، أن يقدم تقريره إلى الأمين العام أولاً، وإلى العالم عبر الصحافة ثانياً، حتى وإن كان التقرير سرياً.
التقرير سرعان ما نُشر من صحيفة «الغارديان» في معظم الصحف والوكالات العالمية. وتنشر «الأخبار» في ما يلي بعض ما لم يأت على ذكره الموجز الذي وزعته الوكالات، والذي يعني الشرق الأوسط من قريب وبعيد.
فإلى جانب انتقاده الشديد للجنة الرباعية وفشلها في السعي الجدي إلى حل الأزمة الفلسطينية سلمياً وانحيازها المطلق للمواقف الأميركية ــــــ الإسرائيلية، وضع المبعوث الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط، يده على مواطن الخلل في العلاقة بين الأمم المتحدة والقوى الكبرى.
وحمل دي سوتو على المحاباة والتمييز داخل المنظمة الدولية. وانتقد استبعاد سوريا و«حماس» من أجواء التسويات المطروحة والرهان فقط على الأطراف التي تحظى برضى الولايات المتحدة. ووصف فكرة الهلال الشيعي بأنها مجرد أداة لإبعاد الانتباه عن القضية الفلسطينية.
التقرير يتضمن فقرات جديرة بالاهتمام عن رؤيته لعملية السلام في الشرق الأوسط، وانتقاده بشكل خاص لدور مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لتنفيذ القرار 1559 تيري رود لارسن، الذي كان يحجب عنه تقارير واتصالات تتعلق بعمله مباشرةً.
الأراضي الفلسطينية
استعرض دي سوتو تطور الأوضاع في الأراضي الفلسطينية منذ توليه المنصب الدولي في أيار 2005، عندما طلب منه الأمين العام آنذاك كوفي أنان مرافقته إلى اجتماع الرباعية الدولية في موسكو إلى جانب منصبه كمبعوث لشؤون الصحراء الغربية. وقال إن «الانسحاب الإسرائيلي من غزة مثّل نهاية الحلم الصهيوني بإقامة دولة إسرائيل في أرض الميعاد كلها والسيطرة الديموغرافية على الأراضي المحتلة عام 1967». وكان الانسحاب «بعيد الأثر لأنه كان أول انسحاب لمستوطنين من أراض فلسطينية محتلة». لكنه لا يرى فيها خطوة على طريق خريطة الطريق نحو إنشاء دولة فلسطينية مستقلة «على العكس من ذلك. كانت خطوة استعراضية، قضت على خريطة الطريق. فلقد استغل (رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل) شارون الخطوة ليفوز بتنازلات أميركية بما في ذلك رسالة (الرئيس الأميركي جورج) بوش التي تؤكد المحافظة على كتل استيطانية في الضفة وحرمان اللاجئين الفلسطينيين حق العودة، والمضي قدماً في بناء الجدار، وبناء المزيد من المستوطنات في الضفة الغربية».
وأضاف دي سوتو «إن رهانات الإسرائيليين على أن الانسحاب سينهي التهديد الفلسطيني للمستوطنات كان خاطئاً، وكذلك رهان الفلسطينيين على الحصول على شيء من حريتهم كان مفرطاً في التفاؤل؛ فغزّة بقيت سجناً كبيراً من دون سقف، محكوماً مباشرة من إسرائيل من جميع الحدود. والإسرائيليون يشعرون بحنق شديد كيف أن هذا التنازل تحوّل إلى فشل أمني ذريع عقب الفشل السابق في لبنان عام 2000».
أركاديو - La Prensa - بنماوجاء فوز حماس في 25 كانون الثاني 2006 كنكسة شديدة لحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، بحسب تقويم دي سوتو. ورغم أن أولمرت ادّعى أنه دعم الرئيس الفلسطيني محمود عباس، فإن دي سوتو وصف الادعاء بأنه فارغ ولا سيما بعد تجميد الأرصدة والضرائب.
واستعرض دي سوتو تدهور الأوضاع في 2006 من أسر المقاتلين الفلسطينيين للجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، مشيراً إلى أن رد الفعل الإسرائيلي جاء عشوائياً، «واستهدف، من دون مبرر محطة توليد الطاقة الوحيدة في غزة، فيما روّع اختراق الطائرات الحربية لجدار الصوت فوق القطاع السكان مرات عديدة يومياً. وفشلت العملية بشكل ذريع في تحقيق أهدافها في إعادة الجندي الأسير وفي منع إطلاق الصواريخ».
سوريا
حدّد دي سوتو أهمية سوريا في أي حل لأزمات الشرق الأوسط، ولا سيما الصراع العربي الإسرائيلي. قال، في تقريره، «هناك قول قديم إنه في الشرق الأوسط لا يمكن خوض حرب من دون مصر ولا يمكن تحقيق السلام من دون سوريا. إن النصف الأول من هذا القول لم يعد صالحاً، لكني أشعر بأن النصف الثاني يبقى حقيقياً».
بالنسبة إلى دي سوتو، فإن إبقاء دور سوريا محدوداً مزعج حتماً. والمتبنون لهذا التوجه يعتقدون، بحسب رأيه، بأنه يمكن استئناف المسار الإسرائيلي ــــــ الفلسطيني بمعزل عن دمشق.
وفي تعبير مراعاة المسؤول الدولي لـ «الكبار»، يقول دي سوتو «أعرف أن هذه هي طريقة التفكير، وقد بدا ذلك واضحاً بشكل تام من خلال التقرير الذي قدّمه المبعوث الأميركي إلى زملائه في اللجنة الرباعية عند مناقشة المبادرة العربية للسلام، والذين استفسروا إن كان العرب جاهزين للاستجابة إذا توصّلت إسرائيل إلى مجرد اتفاق مع الفلسطينييين، الذي يتعارض مع الانسحاب الشامل من جميع الأراضي المحتلة (بما فيها الجولان السوري والموجود في بيان قمة بيروت لعام 2002 كمطلب من أجل تطبيع العلاقات مع البلدان العربية). لقد أُخبرنا بأن الرباعية العربية قد ردّت بالإيجاب».
ثم يضيف «إنني حائر. إذا كان الرد بالإيجاب فعلاً، فإن ذلك سيكون بسبب الرغبة في إعلام محاوريهم بالأشياء التي يرغبون سماعها. مثل هذه المقاربة ستكون سبباً تقسيمياً بين العرب، وقد تقوّض جديّاً التضامن العربي الذي يقف وراء المبادرة العربية، وهي أحد الإسهامات الرئيسة. أنا لا أعتقد بأنهم يستطيعون جديّاً تصديق أنه يمكن حل الجبهات المختلفة بشكل نظيف والتعامل معها تدريجاً لتقديم فكرة الاهتمام بحسن سلوك الأطراف أولاً». ويتساءل «أهناك من يعتقد حقاً بأن عملية جادة بين إسرائيل والفلسطينيين يمكن أن تحقق تقدماً من دون رضى سوريا؟ أو على الأقل عدم معارضتها؟ ومن دون فتح بعض القنوات من أجل التعاطي مع الهموم السورية؟ إذا كان لا بد المحاولة، فمن المؤكد أن تذكيراً بقدرة سوريا على إحباط المشروع لن يتأخر كثيراً».
لارسن
وفي تعبير عن حيرته الشديدة لتعقيد مهمته بوجوب مقاطعة سوريا بغض النظر عن الانعكاسات السلبية، ولتمييز تيري رود لارسن في المعاملة رغم أن ولايته أضيق، يقول دي سوتو «لم يقدم إلي أحد سبباً مقنعاً لماذا ينبغي لي الابتعاد عن دمشق لمدة سنتين، لقد سمعت شائعات أحياناً، بما أن العمل الأساسي مع سوريا مرتبط بدورها في لبنان، وخصوصاً في تنفيذ قرار مجلس الأمن 1559، وأخيراً 1701، حيث سيؤدي إلى الخروج عن هذه المواضيع إذا ما تحدّث عضو من الأمم المتحدة مع سوريا في غيرها من المواضيع. دعوني أسجّل بأنني خلال سنتين لم أتسلّم أي تقرير عن الاجتماعات أو نشاط المبعوث المسؤول عن تنفيذ القرار 1559 (لارسن) بالرغم من أنني علمت أنه تلقّى بشكل منتظم المواد التي تشاطرتها مع المقر الرئيسي للأمم المتحدة. وكنت مدركاً أنه على اتصال بأفراد من الحكومة السورية، وكذلك بالفلسطينين والإسرائيليين (بالطبع حصلت على هذه المعلومات منهم، لا من الأمم المتحدة)».
ويضيف دي سوتو، منتقداً المنظمة والفوضى السائدة فيها، أو التمييز المتعمد في المعاملة، «لديه (لارسن) ولاية محددة وضيقة، ولدي ولاية واسعة، ولو كان مقر الأمم المتحدة منظماً، لكان كل من مكتب الأمين العام وإدارة الشؤون السياسية ضمنا بقاء المبعوث، صاحب المهمة الشاملة، مطّلعاً على كل تفاصيل عمل شخص يعمل في مهمة أضيق. ولم يكن صعباً على منسق خاص مطّلع، عندما يكون في دمشق، أن يتأكد من عدم تشابك الأوراق بحيث يراعي عدم قول أو فعل شيء من شأنه أن يضعف الحاجة إلى إحراز تقدم في مسارات أخرى، أو يؤثر سلباً على عمل زملائه».
كما عبّر دي سوتو عن سخطه لعدم استقلالية المنظمة الدولية في قرارها عندما يتعلق الأمر بالتضارب مع السياسة الأميركية. وقال، معلقاً على منعه من التعامل مع دمشق،
«رغم جهودي الدؤوبة، التي عارضها المقر الرئيس للأمم المتحدة، لضمان أن يكون للأمم المتحدة قناة جيدة مع سوريا في ما يتعلق بالصراع العربي ــــــ الإسرائيلي، فمن السخرية أنه عشية مغادرتي، أن تجتمع في شرم الشيخ وزيرة خارجية أميركا مع وزير خارجية سوريا، وكذلك يتم اجتماع أعضاء في اللجنة الرباعية مع سوريا بوصفها عضواً في لجنة المتابعة لمبادرة السلام العربية. إن الأمم المتحدة لم تؤد أي دور أو ربما أدت دوراً بسيطاً في تحقيق هذا. لكنني آمل بقوة ألا نقوم بعزل سوريا بعد الآن. وأن نضمن بأن أي شخص من الأمم المتحدة سيتولى موضوع عملية السلام في الشرق الأوسط سيحافظ على حوار وعلاقة مع دمشق. للأسف، لا أستطيع أن أعد ذلك الشخص بعلاقة ممتازة. ومنذ الوقت الذي استسلمنا فيه لسياسية النبذ عندما كانوا خارجاً في العراء، فإن النظرة السائدة إلينا الآن أننا لم نكن حياديين جيدين، لكن مجرد أصدقاء فقط عندما تكون الأجواء رطبة».
وانتقد دي سوتو بشدة عدم تعاطي الأمم المتحدة مع «حماس» التي فازت بغالبية المقاعد النيابية في انتخابات شهد العالم لنزاهتها. وأشار إلى أنه «في اجتماع الرباعية السنوي 2005، الذي يعقد على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة كل سنة، كان موضوع مشاركة حماس في الانتخابات مرفوضاً من اسرائيل. وبعد التشاور بين الرباعية والرئيس الفلسطيني محمود عباس، رأت الرباعية أن مشاركتها مرحلة من عملية التحوّل الفلسطينية نحو الديموقراطية. وترك موضوع المشاركة كشأن داخلي فلسطيني». ورأى أن أعضاء الرباعية تجاهلوا المشاركة السياسية وحمل السلاح في آن معاً. وجاء فوز «حماس» مفاجئاً للجميع، بما في ذلك أبو مازن الذي ارتبك بشكل كبير. واقترح دي سوتو ترك الأمور للأمم المتحدة وللاتحاد الأوروبي في التعاطي مع «حماس» لمساعدتها على سلوك ديموقراطي بالنظر إلى أن الأطراف الأخرى مكبّلة بقوانين تمنعها من التعامل معها. لكن الأميركيين طرحوا بياناً للرباعية في 29 كانون الثاني يتضمّن شروطاً لقبول «حماس» واستمرار تقديم المساعدات الدولية إذا ما أقرّت بنبذ العنف، واعترفت بإسرائيل، والتزمت الاتفاقيات السابقة.
يقول دي سوتو إنه «لسد الثغرة، اقترح على الأمين العام إما حذف الإشارة إلى مراجعة المساعدات، أو يترك الأمر للدول المانحة من الرباعية». وعندما وصل دي سوتو إلى لندن في اليوم التالي، وُوجه بسيل من النقد والتجريح من مساعد وزيرة الخارجية الأميركية دافيد ولش، ومن أليوت أبرامز بما في ذلك التلميح بحجب مساهمات أميركية عن الأمم المتحدة إذا أنفقت أموالاً في مشاريع تنموية في الأراضي الفلسطينية. لكنّ البيان الختامي تضمّن بعض التعديلات التي سمحت بتقديم مساعدات مؤقتة ريثما تتقبل الحكومة الفلسطينية المبادئ الثلاثة.
وحاول دي سوتو الالتفاف على هذا الموقف، لكنه لم يلقَ دعماً من الأوروبيين أو الروس لموقفه. وفي النهاية حجبت المساعدات عن الحكومة الفلسطينية لتترك آثاراً فادحة على السكان وعلى مستقبل الدولة الفلسطينية. ورأى دي سوتو أن الغاية من حجب المساعدات «أعطت نتائج مضادة لما كانت تطمح إليه الدول والمنظمات الضاغطة». كما تخلّت إسرائيل عن واجبها بتطبيق القوانين الدولية التي تنصّ على حماية السكان الواقعين تحت الاحتلال. ورأى أن إسرائيل مُنحت امتيازات دولية لسفك الدماء بعد انسحابها من غزة «وقتلت مئات المدنيين في اجتياحات من الوزن الثقيل وتدمير البنى الأساسية، وبعضها طائش على غرار تدمير الكهرباء».
وحمّل دي سوتو «الرباعية» مسؤولية رفع كل الضغط عن إسرائيل بالتركيز على «حماس». ثم تمت تعبئة الرأي العام بفكرة «الهلال الشيعي»، التي وصفها بأنها «وسيلة ترمي إلى حرف الانتباه عما تمر به القضية الفلسطينية».
وتضمّن التقرير عشرات الصفحات التي تروي التحيّز المفضوح للأجندة الأميركية الإسرائيلية. ولقد تفادى الأمين العام للأمم المتحدة التعليق عليها.
لكنّ بان كي مون لم يستطع تجاهله عندما واجه الصحافة مساء الأربعاء الماضي. فقال إنه لا يتفق مع تقرير دي سوتو «الذي سرّب للأسف إلى الصحافة ... نقطة أن الرباعية تحولت إلى مجرد عارضة على الطريق». واكتفى بالقول إن الرباعية ستتّسم بالنشاط في المرحلة المقبلة بعد تفعيلها. وأضاف إنها «قدمت مساهمات عديدة للسلام والأمن في الشرق الأوسط. ومن خلال تسخين دور الرباعية، سيكون لدينا شكل جديد موسّع للرباعية بدعوة قادة فلسطين وإسرائيل، وبعدها بيوم سيجتمعون مع شركاء من العرب مثل مصر والسعودية والأردن وقطر وسوريا والجامعة العربية. وهكذا، بمشاركة الشركاء العرب، وبمشاركة المعنيين مباشرة مثل إسرائيل وفلسطين، فإن الرباعية ستستطيع أن تؤدي دوراً معززاً في تسهيل العملية السلمية. وعليه فإني أطلب منكم أن تمنحوا الرباعية المزيد من الثقة بما ستقوم به في المستقبل».
بعد هذه الصفعة الشديدة من الفارو دي سوتو للأمم المتحدة، ولما يسمّى المجتمع الدولي، فإنه سيتعيّن على بان كي مون من الآن فصاعداً ألّا يكتفي بمنع تسريب المذكرات على أنواعها، بل أن يبرهن أنه مستقل عن التأثيرات الأميركية والإسرائيلية، وهو ما اتهمه به أحد أكبر مساعديه.