بذل الحشد الكبير من جهابذة الإعلام، الذين التفوا حول توني بلير وآزروه، جهداً جباراً وقدموا له بإخلاص كل دعم ممكن وعكفوا على التخطيط لكل حركة ورسموا بأدق التفاصيل كل السيناريوهات المتوقعة وخاضوا في الاحتمالات كافة، ومع ذلك لم تجر الأمور كما خطط لها، ولم يك وداع بلير المطول الذي استغرق سبع أسابيع وفياً للنص ولم يتبع الإرشادات بحذافيرها.

وأثناء زيارة بلير الختامية للعراق كان وقع مزاعمه التي أطلقها هناك، حيث قال إن هناك “علائم حقيقية وقرائن على حدوث تغيّر وإحراز تقدم” في البلاد، وقع دعابة سمجة ممجوجة، لا سيما وأن هذا الزعم قوّض أركانه على الفور، دويّ قذائف المدفعية التي أمطرت بها المنطقة الخضراء في بغداد خلال زيارته الأخيرة، ووقع شخص واحد على الأقل جريحاً جراء هذا الهجوم، وضربت صلية ثانية من القذائف يومها مجمّع السفارة البريطانية، وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، وبعد دقائق من إلقاء بلير لخطابه في المقر العام لقيادة القوات البريطانية في البصرة، تعرضت القاعدة العسكرية لهجوم بمدافع الهاون.

وثمة لون آخر مختلف من النيران كان في انتظار بلير وهو يتوجه عائداً إلى بلده الأسبوع الماضي. وعندما سئل الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر عن رأيه في العلاقة بين بوش وبلير وكيف يصفها وفي أي منزلة ينزلها أجاب: “أعتقد أن دعم بريطانيا، الذي يكاد يكون مطلقاً لسياسات الرئيس بوش الخرقاء في العراق، كان بمثابة مأساة مفجعة بالنسبة للعالم”.

وعلى الرغم من أنه انكشف على الدوام أن خطابات بلير محشوة بتلفيقات مفتراة، يواصل الإعلام تركيزه على مزايا بلير وشمائله ومناقبه بصفته “عازفاً رائع الأداء”، ولا يكاد يلتفت إلا لماماً إلى صدق ما يقوله، ولا يقف عند كذبه الفاضح ولا يتطرق إلى المغالطات المشينة التي تعج بها مقولاته المؤسسة لنهجه وسياساته، وفي الأسبوع المنصرم أورد مات ويلز، وهو من طاقم محرري “الجارديان” عن خطاب استقالة بلير في 10 مايو/أيار أنه “ذكّر المعلقين بتألقه بصفته فارس أداء إعلامي رائع يثير الإعجاب”.

وسرعان ما رجع محرر “الاوبزيرفر” اندرو رونسلي صدى إطراء ويلز ووافقه على انبهاره فقال: “لقد ذكّرنا مرة أخرى بما جرى على يديه من أداء مدهش غاية في البراعة على مدى العقد الماضي كله، حسبما شهدنا وخبرنا”.

وكانت موجة الانبهار المسحور سامقة العلو بحيث اجتاحت ايضاً فيليب ستيفينز، من هيئة محرري “الفايننشال تايمز” فقال بعد أن استحوذ عليه الإعجاب، “جاء أداء بلير المبهر ليذكّرنا بالفجوة التي سيخلقها في الحياة السياسية القومية لبلدنا، فمن ذا الذي يستطيع سدّ تلك الثغرة”.

وأما الرسالة التي قصد بلير بثها عبر خطابه والنغمة الوداعية في ثنايا استقالته فكانت على درجة كافية من الوضوح الذي لاشك في أنه توخاه: “ربما كنت مخطئاً، وتلك هي دعواكم، إلا أن لكم أن تصدقوا إن شئتم أمراً واحداً، إن أبيتم إلا تكذيب كل شيء، ألا وهو أنني فعلت ما اعتقدت أنه في مصلحة بلدنا”.

ولربما ذهب بلير بالفعل إلى الاعتقاد بأن تلك السياسة التي انتهجها كانت تصب في مصلحة بريطانيا، أي أنه آمن حقاً بأن من الخير لبريطانيا أن يحجب الحقائق عنها وعن العالم وأن يكذب ويدجّل ويفتري، وأن يخدع البرلمان، وأن يفسد البرلمان ويسعى في خرابه وخراب البروتوكولات السياسية والاستخباراتية، وأن يرهب الأهالي سكان بريطانيا شهراً إثر شهر بتحذيرات زائفة تخوفهم من هجوم وشيك فتاك، وأن يشن من ثم حرباً غير مشروعة وتتنافى مع كل القوانين وأن يرتكب مجازر للقتل الجماعي، وأن يسخر هذه المصائب كلها لما يزعم أنه مصلحة بلده، وأما أن يتصدى المجرم للدفاع عما ارتكب من فظائع مستخدماً حججاً، لو أنه تأمل فيها لرآها تصب في مصلحة قضية ضحاياه الذين ذبحوا على مذبح ما خال أنه مصلحته ومصلحة بريطانيا، فحري أن يجعلنا ننظر إليه على أنه أشد خطراً بكثير حتى مما نتصور ونحذر، فالرجل على ما يبدو استغرق في الوهم حتى سدت أمامه منافذ البصيرة وغشيته عماوة الهوى والتعصب فراح يتمرغ في دياجير الضلالة.

كيف نفسر حماسة الآلة الإعلامية الطاغية في جبروتها وتلهفها على عرض وتجميل مشهد بلير الوداعي المسرحي الذي يقطر بالتصنع وتلميع خطابه المخادع الذي ينضح بالزيف؟

كان محلل الشؤون السياسية الأمريكي إدوارد هيرمان قد كتب مرة ليقول إن الدور الحقيقي لصحافة التيار المهيمن الرئيسي إنما هو: “إضفاء لمسة طبيعية على ما هو مستفظع طبعاً وفطرة، وإسباغ مسحة من الجمال على ما هو مستقبح غريزياً، وجعل ما لا يمكن تصوره لهوله وشناعته أمراً اعتيادياً”، وهذا هو بالضبط النهج الذي اتبعه الصحافيون مع بلير، ففي المجالس الخاصة يقر كثير من الصحافيين ويتقبلون حقيقية أن بلير خدع الشعب والعالم عن عمد، وهو على دراية تامة بما يصنع، وذلك سعياً وراء شن حرب كان قد أبرم الاتفاق بشأن إيقادها مع بوش منذ أمد بعيد، ثم راح يتسقط الذرائع ويتلمس الحجج لتبريرها، إلا أن هؤلاء لا يتكلمون في العلن والمجالس العامة سوى عن أخطاء وتخبطات.

وفي وقت مبكر من هذا الشهر أبدى ادريان هاميلتون الصحافي في جريدة “الاندبندنت” الملاحظة التالية: “أسدى بلير بنصيحة للإدارة الأمريكية يحذرها فيها تحذيراً شديداً من أسوأ خطأين يمكن ارتكابهما: قرار حل الجيش العراقي، وتطهير الوزارات العراقية من البعثيين”.

و”الأخطاء” كانت حقيقية لا يمكن التنصل منها، إلا أن خطرها يتبدد وتصبح أشبه بالتفاهة إذا ما قورنت بالجرم الفظيع الأصلي المرتكب، ألا وهو شن حرب عدوانية ظالمة في المقام الأول، حرب قذرة غير مبررة أودت حتى الآن بحياة مليون إنسان عراقي.

وهذا التركيز على “أخطاء” بلير يمنح الإعلام معناه الآثم، ودوره المشبوه المعاصر الذي أنيط به، فالتركيز بشكل أكبر وبنهج متعمق على مراكز القوى التي تصوغ السياسة الخارجية وتحركها وتدفع نحو بلورتها، والتركيز على الغايات الحقيقية لمراكز القوى المهيمنة هذه من شأنه أن يهدد الوضع القائم ويعرّي مساوئه ويفضح عوراته.

وفي حين يرتدي الإعلام زوراً وبهتاناً عباءة الاستقلال والحياد والموضوعية، فإنه في الحقيقة جزء أغدق عليه الكبار في هذه اللعبة المكافآت والجوائز وأتخموه بالرشى، في نظام ينتفع من الأمر الواقع السائد. وفي التحليل النهائي، فإن الإعلام الشركاتي سيخسر الكثير جراء قيامه بعمله على الوجه الصحيح وطبقاً للمعايير القويمة والأصول المعيارية السليمة.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)