بكل العمق الفلسفي الذي ينتج مفهوم "اللا عنف" يمكن ان ننظر إلى تجربة التعامل مع هذا المفهوم اليوم، فالمسألة ليس قضية سياسية حول السلام أو الحرب، أو حتى حول صراع الوجود أو الحدود التي استهلكت الشرق الأوسط، فمسألة اللاعنف تبدو أعقد من أن نغرقها في بحث وجداني يستعرض أسماء الرواد المعاصرين مثل غاندي، أو أولئك الذين ينتمون إلى العصور الوسطى كفرنسيس أسوزي، فهي تحتاج إلى ثقافة، وإنتاج ثقافي قادر على كسر أطار العنف الذي يحيط بنا من خلال السياسة الدولية... فهل هذا ممكن؟

المشكلة الأساسية التي تواجه هذا المفهوم داخل مجتمعاتنا هو تناقضه مع الواقع، فالقضية الأساسية ليست في انتشار العنف، بل في كونه نتيجة لحالة الغبن العميقة التي أصابة مجتمعاتنا، وانتهاك انسانية هذه المجتمعات من خلال زيف القيم التي فرضت عبر أساليب سياسية، فهذا ما حدث ويحدث في العراق أو فلسطين أو غيرها، واللا عنف أيضا لا يحتاج إلى الثقة بأنه مذهب اجتماعي فاعل، بل أيضا لمعرفة "جدواه" في ظل نظام دولي متطرف بمسألة العنف، ويطرح "الحرب الاستباقية" كاستراتيجية لتعامله مع العالم.

ومسألة "اللاعنف" يمكن اليوم قراءتها وفق ثلاث صور مختلفة:
  الأولى أن هذه المسألة شأن اجتماعي ظهر بشكل طبيعي داخل مجتمعنا سواء عبر السيد المسيح أو عبر الفلاسفة مثل زينزن الرواقي، لكنه في المقابل كان شرطا للحياة في منطقتنا التي تمكتاز بالتنوع.
  الصورة الثانية أن ظهور هذا المذهب لم يكن يعني تحقيق السلام الداخل لأنه على عكس ما هو متوقع لم يكن منسجما مع واقع دفع المنطقة منذ فجر التاريخ إلى صراعات حاسمة وحروب طويلة، وربما كانت هذه الظروف هي سبب ظهور رواد اللاعنف في منطقتنا، وفي نفس الوقت عدم قدرتهم على تأسيس مذاهب قوية على سياق "الديانات الشرقية".
  أخيرا فإنها في صورها المعاصرة لا تبدو قادرة على تجاوز "المشروع السياسي"، بمعنى أنها تظهر كفكرة مأزومة وسط الصراعات السياسية حول السلام في الشرق الأوسط، فهل هي قادرة بالفعل على خلق مسافة مع "فكرة السلام"، أم انها تستطيع الاحتفاظ بخصوصيتها وسط تيارات السلام الإقليمية والدولية.

في مسألة اللاعنف يبدو من الضروري بحث هذه المسألة على الواقع دون الغرق في المشاعر التي تفرض علينا تبني هذه الفكرة، أو التعامل معها، لأنها حالة يمكن ان تبحث في ظرفها اليوم، بينما يبقى الحديث عن روادها مجرد معرفة يستطيع أي شخص أن يصل إليها بالمتابعة والاطلاع.