تشكل كتابة مقال حول العراق موجه إلى جمهور أميركي، تجربة تدعو للتأمل عندما تحاول أن تعرض بشكل رئيسي وجهة نظر عراقية، وهو أمر أدركته مؤخراً بعد أن كتبت مقالاً افتتاحياً نُشر في صحيفة «بوسطن غلوب».

من خلال المقال المذكور، حاولت أن أعتمد على بعض النتائج التي قد تتأتى مما بدا لي استراتيجية المرحلة النهائية المحتملة التي قد يعتمدها جورج بوش في حال فشلت عملية زيادة عدد القوات الاميركية حالياً في بغداد وفي الأنبار. وبحسب ما بدأ الرئيس يلمّح، تقوم العملية على المبادئ التي وردت في تقرير بيكر - هاميلتون الذي صدر خلال العام الماضي والذي يدعو الى تقليص المهمة التي يضطلع بها الأميركيون لحصرها الى حد كبير في عملية تدريب وحدات الجيش العراقي والشرطة ومطاردة أفراد «القاعدة» وحماية الحدود ومحاولة تأمين تعاون جيران العراق لدعم المصالحة السياسية العراقية. وضم ذلك المقال دراسة موجزة للوضع السياسي في بغداد.

وشعرت بصدمة كبيرة عندما علمت أن بعضا من أصدقائي الأميركيين الذين سافروا كثيرا في أنحاء العالم والذين يتمتعون بحكمة كبيرة، اعتبروا المقال الذي كتبته مجرد مقال يتمحور حول أميركا، من دون أن يلاحظوا محاولتي دراسة المشهد السياسي العراقي الحالي من الداخل.

ولم أفهم بعد السبب الذي يقف وراء انتشار النزعة إلى اعتبار أن كل شيء يتمحور حول أميركا، إذ يبدو واضحاً أن الأمر بات يشكل جزءاً مما يتم تحديده على أنه نموذج فكري إمبريالي. كما من الممكن أن يكون شكلا من أشكال العنصرية التي تفضّل مصالح مجموعة معينة من الناس على مصالح أشخاص آخرين ينتمون إلى مجموعة مختلفة. ولا يساعدنا استخدام التصنيفات - إمبريالي وعنصري - على التوصل إلى نتيجة معينة. فربما من الأدقّ القول أنه يتم نقل معظم الأخبار التي تصل إلى الولايات المتحدة الأميركية من قبل مراسلين أميركيين شهدوا الأحداث ومن ثمّ فسروها من وجهة نظر أميركية.

ولربما من المهم أيضاً الإشارة الى ما يسمى بـ «الخبراء في شؤون الشرق الأوسط» الذين يستخدمون نفوذهم الكبير في واشنطن، وهم أذكياء بما فيه الكفاية ليقدموا نصيحتهم بالطريقة نفسها التي يتم بها الترويج للمصلحة الأميركية قبل المصالح الأخرى، في حين يسود جو من الشك حول الأشخاص الذين فهموا وتعاطفوا مع جزء من العالم يضم أشخاصاً يعتبرهم البعض معادين لمصالح الولايات المتحدة الأميركية. وبما أنني لم أترعرع ولم أتلقَ التعليم في أميركا، أشعر بصدمة عندما أسمع هذا الكلام.

وبعد التفكير ملياً في وقت لاحق، أدركت أنني لم أبذل الجهد الكافي في افتتاحيتي لأفسر للجمهور الأميركي كيف يعمل النظام الطائفي. فالواقع أن الأميركيين باتوا ينظرون إلى العراق من منطلق طائفي فقط حتى في ما يتعلق بالحاجة إلى دمج القيادة السنية بطريقة تبعد الشبهات عن دعمها المفترض للمجموعة السنية المتمردة.

لكن قد لا ينظر الزعماء العراقيون إلى الوضع بهذه الطريقة، مع العلم أن موقع أولئك الزعماء يقوم على الاعتراف بهم وعلى الدعم الانتخابي الذي يحصلون عليه من طائفتهم أو من المجموعة الإثنية الخاصة كما في حالة الأكراد. وفي بغداد كما في لبنان، تكمن الطريقة الوحيدة للحفاظ على موقع الزعماء وتعزيزه، في الوصول الى موارد الدولة التي تلبي حاجات ناخبيهم ما يتطلب سياسة تقاسم يتم التفاوض عليها بعيداً عن الانقسام الاثني الطائفي.

وقد حاولت أن أبرهن ذلك عبر لفت الانتباه إلى عودة مقتدى الصدر مؤخرا إلى بغداد على أساس أنه، وعلى غرار الزعماء السياسيين الرئيسيين، أدرك الحاجة إلى أن يبقى في قلب الحياة السياسية للحصول على حصته من هذه الموارد السياسية والمالية والعسكرية ولمنع مناصريه، خاصة كبار القادة في جيش المهدي، من الانتقال الى مرحلة إنشاء إقطاعيات طائفية صغيرة خاصة بهم.

لكن الأمر أبعد من ذلك بكثير، ولربما وجدت، أو بالأحرى كان يجدر بي أن أجد مساحة لمناقشة التوازن الذي ينبغي على كل سياسي طائفي أن يبحث عنه للتوفيق ما بين الاهتمام بمصلحة ناخبيه وبين تخطي الخطوط الطائفية بالنسبة إلى زعماء آخرين ينظر إلى البعض من مؤيديهم على أنهم أعداء خطرون. كما يجب أن يحاولوا التنبّؤ بأعمال القوى الخارجية الأكثر نفوذا وبردّات فعلها ومن ثم أن يوفقوا فيما بينها، كالأميركيين والإيرانيين في العراق، والسوريين وآخرين في لبنان. وكما برهن مقتدى الصدر، يجب أن يجدوا طريقة لاستخدام حس العراقيين الوطني الكبير الذي يتخطى في بعض الأحيان وفي بعض المناسبات الانقسام الطائفي.

وبعد فترة وجيزة من نشر مقالي، نُشر مقال في صحيفة «بوسطن غلوب» كتبه شخص يدعى ستيفن بيدل، وهو عضو بارز في مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، كما يؤيد نظريتي بالكامل أن كل شيء يتمحور حول أميركا. ويحمل هذا المقال عنوان «المساومة الصعبة» وترافقه صورة لموقع عسكري في الرمادي، يظهر فيه سلاح رشاش ثقيل موجه نحو اثني عشر عراقياً او أكثر يدفعون العربات وينظفون الشارع. ويقدم المقال حجة تقوم على افتراض أن الزعماء العراقيين لن يتوقفوا عن معارضة المصالحة السياسية إلا في حال استخدم الأميركيون استراتيجية عسكرية قاسية لمكافأة الأشخاص المستعدين للمساومة ولمعاقبة الأشخاص الذين يرفضونها.

وتنظر هذه الذهنية الإمبريالية إلى السياسيين العراقيين على أنهم أشخاص يسعون وراء سفك الدماء وبالتالي يجب التعامل معهم بالاعتماد على سيكولوجيا سلوكية بسيطة قريبة من تلك التي طوّرها العالم الروسي بافلوف في تعامله مع الكلاب. وقد نجح الجنرال رايموند أودييرنو، قائد القوات البرية الأميركية في العراق، في التقدم الى أبعد من هذه النقطة البسيطة معتبرا أن التقدم نحو المصالحة السياسية العراقية هو مهمّة أكبر وأطول وأصعب من مهمّة بلوغ الهدف الذي يتعلق بالتعديلات الدستورية أو بالمصادقة على قانون جديد حول النفط. وبالطبع، من الممكن القول إن الجنود، وعلى غرار المسؤولين الأميركيين المحليين في السفارة في بغداد، يشعرون بحاجة ملحة لفهم الأمور من وجهة نظر العراقيين، فضلا عن أنهم يحظون بفرصة أفضل لبلوغ هذا الهدف منا نحن الذين نعيش في واشنطن أو في بوسطن. لكن لا يزال هذا النوع من التوعية الذي يقوم على ما يمكن وصفه بـ «المعرفة العسكرية الاستعمارية» بعيداً عن محاولة إبلاغ الرأي العام الأميركي، والبريطاني أيضا، كيف تبدو الأمور حقا من وجهة نظر الأشخاص الذين يعيشون في بغداد أو في دمشق أو طهران أو بيروت.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)