حضرت قبل أسبوعين حفلاً لتخريج طلبة الدكتوراه عن العام الجاري الذي نظمته الجامعة العبرية في القدس. وقد جرى الاحتفال في أحد المدرجات فوق جبل "سكوبيس" الذي يطل على البحر الميت، حيث غطت أشعة الشمس، التي كانت تتأهب للغروب الطلبة بغلالة حمراء يحيل المنظر من حولها إلى مشهد إنجيلي موغل في التاريخ. لكن قبل أن أشرع في وصف احتفال التخرج أشير أولاً إلى تزامنه مع أخبار واردة من بريطانيا تفيد بأن اتحاد الجامعات والمعاهد هناك ناشد أعضاءه بالنظر في مقاطعة الجامعات الإسرائيلية بعد اتهامها بالتواطؤ مع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وعلى كل حال ركزت انتباهي على أسماء طلبة الدكتوراه الذين كان ينادى عليهم لتسلم شهاداتهم من قيادة الجامعة، حيث توالت الأسماء الإسرائيلية الواحدة تلو الآخر: "موشي نهماني"، "إيريت نويك"، "يوفال عوفير"، لكن بين الحين والآخر كانت تتخلل تلك الأسماء العبرية أسماء أخرى عربية مثل "نهى حجازي" و"رفعت عزام"، أو "طالب مقاري".

وبما أن نظام تسليم الشهادات كان يشير إلى التخصص والمشرفين على درجة الدكتوراه، فقد واصلت متابعتي وسجلت ما يلي: حصل الطالب "رفعت" على درجة الدكتوراه في القانون، واتخذت أطروحته من موضوع "نظام الضرائب الدولي على التجارة الإلكترونية" عنواناً لها، وكان الأستاذ الذي أشرف على أطروحته هو البروفيسور "جليكسبورج". وعلى غرار زميلها، نالت الطالبة "نهى" درجة الدكتوراه في تخصص الكيمياء الحيوية تحت إشراف البروفيسور "جابيزون". أما زميلهما الثالث "طالب"، فقد حصل على الدكتوراه في تخصص الكيمياء أيضاً تحت إشراف البروفيسور "بانين". وهؤلاء كانوا طلبة من العرب الإسرائيليين، بينهم العديد من الطالبات؛ والغريب أن إحداهن استلمت شهادتها وهي ترتدي الحجاب، فهي تستطيع ارتداء الحجاب في الجامعة العبرية بكل حرية في حين لا تستطيع ذلك في المدارس الحكومية الفرنسية. ولم تتحرّج الأسر العربية التي رافقت أبناءها من التعبير عن ابتهاجها كلما نهض أحدهم لتلقي شهادته، لا فرق بينهم وبين الأسر اليهودية.

فقلت لنفسي يا له من جنون، إذ في الوقت الذي تمنح فيه الجامعة الإسرائيلية الأولى شهادات الدكتوراه لطلبة عرب، اثنان منهم ينتميان إلى القدس الشرقية -الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي- يدعو بعض الأكاديميين البريطانيين من أقصى "اليسار" إلى مقاطعة الجامعات الإسرائيلية. أسوق هذه القصة لأشدد على نقطة باتت واضحة، ذلك أن الواقع هنا أكثر تعقيداً من الناحية الأخلاقية، مما يصوره المعلقون الخارجيون. ولتوضيح موقفي أقول إنني عارضت لفترة طويلة إقدام إسرائيل على بناء المستوطنات بعد 1967، حيث أهدرت المليارات من الدولارات وتمت الإساءة للجيش الإسرائيلي بتحويله إلى جيش احتلال يحمي المستوطنين وطرقهم. وقد عارضت أيضاً تلك الشبكة من المستوطنات وطرقها التي شوهت الضفة الغربية على نحو قاسٍ وعنيف، أكثر حتى مما يعترف به أصدقاء إسرائيل في الخارج. والواقع أن صمت هؤلاء الأصدقاء، لاسيما قادة اليهود في أميركا، ساهم في توسيع المستوطنات.

لكن عليك أن تكون زائراً أعمى وأخرس وأصم لإسرائيل، كي لا ترى اليوم أن الغالبية الساحقة من الإسرائيليين يعترفون بهذا الخطأ التاريخي، وأنهم لم يكتفوا فقط بالموافقة على خطة "إرييل شارون" الأحادية لاقتلاع المستوطنات من غزة ومعالجة أوضاعها، بل انتخبوا "إيهود أولمرت" لتطبيق الخطة نفسها في الضفة الغربية. وكون ذلك لم يحصل بعد لا يعني أن المسؤولية تقع على عاتق إسرائيل بمفردها، فالفلسطينيون يعيشون في فوضى عارمة. لذا فإن اختيار الجامعات الإسرائيلية لوحدها ومعاقبتها بالمقاطعة هو محض معاداة للسامية. فسوريا التي يُحقق بشأن ضلوعها في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري من قبل الأمم المتحدة، والمتهمة بقتل أكثر صحفيين ولعاً بالحرية "جبران تويني" و"سمير قصير" لم يدعُ أحد لمقاطعة جامعاتها. فلماذا؟ السودان أيضاً متورط في ارتكاب مجازر بدارفور فلماذا لا تتم مقاطعة السودان؟ لمَ؟

فلو كان الأكاديميون اليساريون الذين وقفوا وراء المقاطعة يهتمون حقاً بالفلسطينيين لكانوا ناشدوا كل جامعة بريطانية أن تخصص منحة دراسية لعشرين طالباً فلسطينياً لمساعدتهم فيما هم في أمسِّ الحاجة إليه –اكتساب المهارات الضرورية لإدارة دولة واقتصاد عصريين. ولسعوا أيضاً إلى مطالبة كل جامعة بريطانية بإيفاد أساتذة زائرين إلى الجامعات الفلسطينية لمساعدتها على تحسين مستواها الأكاديمي، ولتحدوا أيضاً الجامعات الإسرائيلية، التي تمنح مسبقاً شهادات الدكتوراه للطلبة العرب، بتخصيص المزيد من المقاعد لهم، بل لكانوا تحدوا الجامعات العربية بالقيام بالمثل. فذلك هو ما يفترض في الأشخاص الذين يعنون حقاً بالفلسطينيين أن يقوموا به، لكن انتقاء الجامعات الإسرائيلية للمقاطعة دون غيرها، في ظل مظاهر الجنون الأخرى المنتشرة في الشرق الأوسط، فذلك ما يقوم به المعادون للسامية.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)