أثبتت إسرائيل مجدداً، في قضية المفكر العربي القومي، الدكتور عزمي بشارة، أن ديموقراطيتها تتمحور داخل إطارها الصهيوني، وضمن مصالح الدولة اليهودية وأبعادها. وبرهنت أن صدرها لا يتسع لديموقراطية حقيقية، تمنح كل مواطنيها، وليس فقط حقوقاً مدنية (التي لم يحصل عليها كاملة عرب 48 بعد مرور أكثر من نصف قرن على وجودهم) بل والحقوق القومية التي لا يمكن العرب في إسرائيل التنازل عنها إرضاءً لنظام صهيوني عنصري. وجاءت رحلة عزمي بشارة السياسية، في أعقاب محاولات عربية كثيرة في الداخل، تعلم عزمي من أخطائها، ما فسح المجال أمامه لإقامة حزب، هو أقوى حزب عربي داخل إسرائيل. كما استطاع من خلال تفكيره الأيديولوجي تجنيد نسبة كبيرة من الناخبين العرب خلفه، وإعطاءهم النَّفَس القومي وتحريكهم، ليس فقط من أجل المطالبة بحقوقهم المدنية، بل والقومية الكاملة في إطار يتماشى مع أوضاعهم التي تختلف كلياً عن أوضاع الجاليات الفلسطينية في البلاد العربية، وتحت احتلال 1967.
والأفكار التي يحملها بشارة لم تكن غريبة عن الشارع العربي في الداخل. فقد سبق بشارة قيام «حركة الأرض» (وكان لي شرف أن تكون والدتي وأنا من المؤسسين لها)، والتي ضاق الصهاينة بها ذرعاً وكانت النتيجة إخراجها خارج القانون.
فقد قامت حركة الأرض في عام 1958، على أثر الصراع الذي وقع بين حركة القومية العربية، بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر، والأحزاب الشيوعية العربية. وكان من الطبيعي أن ينتقل هذا الصراع إلى المجتمع العربي داخل إسرائيل.
وأعطت السلطات الإسرائيلية نفساً لقادة حركة الأرض، لكنها صعقت من الموقف الأيديولوجي لهذه الحركة التي استطاعات أن تحرك الشارع العربي بشكل أذعر السلطات الإسرائيلية، وظهرت قوة حركة الأرض جلياً في دعوتها لمقاطعة الانتخابات البرلمانية التي جرت في عام 1959 ونشرت الحركة في صحيفتها التي كانت تحمل اسم «كلمة الارض» (31/10/1959)، على عرض صفحتها الأولى ثلاث رسمات كاريكاتورية توجه فيها العرب إلى كيفية مقاطعة الانتخابات. وفي تلك الانتخابات انخفض أعضاء الكنيست في الحزب الشيوعي، الذي كان يعتمد في الأساس على الأصوات العربية، بمعدل خمسين في المئة.
ولكي أوضح للقارئ مواقف حركة الأرض، ورؤية قادتها الأيديولوجية سأقتطف بعض النقاط من مبادئ الحركة، كما نشرت في العدد الأول من منشوراتها الذي حمل اسم الأرض عام 1959.
1 ــــــ إعطاء حقوق متساوية في كل الحقول للمواطن العربي، وإلغاء قوانين التمييز العنصري والإقلاع عن سياسة هدم الشخصية العربية ومقوماتها المعنوية المادية والروحية، وفسح جميع الإمكانات أمامها لتتفاعل وتتطور ضمن تقاليدها ومميزاتها القومية.
2 ــــــ الاعتراف بحق عودة اللاجئين العرب إلى ديارهم، لأنه لا يمكن أن يستقر السلام، ما دام مليون لاجئ (كتب عام) 1959 محرومين العودة إلى بلادهم، يعيشون على فتات الموائد، وينامون في الخيام، ويموتون بين قر الجبال وحر الرمال. وإننا إذ نقول هذا لا نستدر عطفاً ولا نستصرخ إنسانية، لأننا نرى أن مشكلتهم مشكلة سياسية في الصميم.
3 ــــــ الاعتراف بأن الوحدة العربية هي القوة المستقلة والمقررة في العالم العربي، وأن أي اعتبار آخر هو وليد خطأ لفهم حقبة التاريخ، سيؤدي بصاحبه إن عاجلاً أو آجلاً إلى الاصطدام بهذه الحقيقة التي تتحطم عليها قرون الوعول.
هذه ثلاثة من المبادئ التي وضعتها حركة الأرض، وكانت هناك بعض المبادئ الأخرى على غرار المطالبة باتباع سياسة الحياد الإيجابي تماشياً مع المبادئ التي وضعها مؤتمر باندونغ التاريخي.
وقد وجدت إسرائيل هذه المواقف معادية لأمن الدولة العبرية، وخصوصاً البند الثالث، وقامت السلطات الإسرائيلية بمصادرة عدد الأرض الثالث عشر، ونفي قادة الحركة إلى أماكن مختلفة من البلاد، ومن ثم عُدّت في بداية الستينات بموجب قرار من محكمة العدل العليا الإسرائيلية خارج القانون، ومنع أعضاؤها من ممارسة السياسة.
وأفرزت حركة الأرض، حركة شابة أطلقت على نفسها اسم «أبناء البلد»، واستطاعت هذه الحركة العمل سياسياً متعلمة من أخطاء وقعت فيها حركة الأرض، إلا أنها لم ترتفع إلى مستوى قيادي مرموق، ووقعت خلافات داخلية، ما ساعد السلطات على تمزيق وحدتها، وانتهت هذه الحركة.
ثم جاء عزمي بشارة يحمل لواء القومية التي طرحت من جانب حركة الأرض، واستطاع أن يطور بعض بنودها ويضيف إليها بنوداً أخرى، وأن يجند الجمهور العربي في إسرائيل، ويقيم حزباً وصل عدد أعضائه في الكنيست إلى ثلاثة أعضاء، وهذا إنجاز كبير.
وكما أسلفنا فقد تعلم عزمي بشارة من أخطاء حركة الأرض، ومن أخطاء أبناء البلد، الشيء الذي ساعده على التقدم بخطى رصينة وثابتة، واحتلاله، هو وحزبه، موقعاً داخل المجتمع العربي، ونال احتراماً داخل المجتمع اليهودي، لدرجة أن بعضاً من مقالاته تدرس في الجامعات الإسرائيلية (ويطالب بعض أعضاء الكنيست الآن إخراج هذه المقالات من البرنامج الدراسي).
وقد وجدت إسرائيل صعوبة في محاربة عزمي بشارة الذي كان يناقض المواقف الصهيونية في البيت الصيوني (الكنيست). وكل من تابع وسائل الإعلام الإسرائيلية، يستطيع أن يقدر الدور الذي يؤديه عزمي بشارة هو وحزبه، على الساحة السياسية.
الشيء الذي لم يرق الصهاينة، هو نجاح عزمي بشارة في ربط التحرك القومي العربي في إسرائيل، مع حركة القومية العربية، ومع العالم العربي بشكل عام. وكانت تعلم أن بقاء عزمي بشارة داخل الدولة بحصانة برلمانية، سيسبب لها مشاكل كثيرة، في مقدمتها الاستمرار في إسقاط القناع الديموقراطي الذي تتحلى به إسرائيل أمام العالم، والتخوف من أن تتحول المطالبة القومية للعرب في إسرائيل إلى خنجر يقض مضجعها. وتربصت لعزمي بالمرصاد، ووقع هو في بعض الأخطاء التي لا مجال للخوض بها في هذا المقال.
إن وجود عزمي بشارة خارج أرض الوطن الفلسطيني، منح إسرائيل ما تريده، وقد تقوم باستغلال ذلك شعبياً. وقد قلت ذلك لعزمي عندما التقيته في البحرين إبان انعقاد «المؤتمر القومي العربي» الثامن عشر (من 28 إلى نيسان/ أبريل 2007). وقلت إن من المهم بمكان أن يبقى شريان الدم القائم بين عزمي بشارة وعرب 1948 قائماً. لهذا اقترحت أن تقوم لجنة في الداخل مكونة من محامين ومفكرين في حزبه ومن خارجه، لتقرر إذا ما كان يجب أن يعود أو يبقى في الخارج قائداً، لا مفكراً عربياً فقط أو موظفاً في مراكز أبحاث أو مستشاراً لشبكات تلفزيونية، مهما كان المنصب الذي سيصل إليه. السبب أن عزمي بشارة ليس ملك نفسه الآن، بل هو ملك ناخبيه، وأبناء شعبه، ويجب أن يحصد ثمار الأشجار التي قام بزرعها.
*كاتب عربي مقيم في الولايات المتّحدة