انتابت علاقاتنا مع الولايات المتحدة الاميركية في الفترة الاخيرة نوبات متتالية من التوتر خرج بعضها الى النور علانية عبر الملاسنات السياسية والاعلامية وظل بعضها الآخر طي الكتمان ربما الى حين.
على الدوام كانت العلاقات مع اميركا ممتدة وطبيعية، اهتزت بقوة وصولا للصدام والعداء في العهد الناصري مثلما توثقت بقوة ايضا في العهد الساداتي ابتداء من منتصف سبعينيات القرن الماضي حتى اليوم.
لكن اليوم ليس كالأمس فثمة تطورات سريعة جعلت الولايات المتحدة ومصالحها وسياساتها في المنطقة العربية او «الشرق الاوسط» المحرك والمهيمن الاول والاخير ووضعت بالتالي علاقاتنا وسياساتنا ومصالحنا ضمن المنظور الاميركي مباشرة واصبح حديث السيادة والاستقلال الوطني في هذه المنطقة من العالم شيئا من أوهام الماضي فقد تغير كل شيء ليتناسق مع هذا المنظور الاميركي احيانا بارادتنا ورضانا واحيانا بالفرض علينا قسرا وجبرا!
في عام 2003 عاتبتني شخصية سياسية مهمة على حدة ما اكتبه باستمرار نقدا ورفضا للسياسة الاميركية في المنطقة ولطريقة تعاملها «الاستعماري» معنا شعوبا وحكومات مصالح واهدافا وقد اكد هذا المسؤول ان مثل هذه الكتابات تعكر صفو المياه في المجرى المصري- الاميركي خصوصا.. دفاعا عن رؤيته ساق حججا كثيرة منها حجة المصالح الاستراتيجية الرابطة بين مصر الدولة المركزية الاقليمية والولايات المتحدة الدولة الاعظم في العالم المنفردة بقيادته وحجة التعاون المشترك «الاستراتيجي» بين الدولتين في دعم الاعتدال والاستقرار ومحاربة التطرف والارهاب المنتشر في المنطقة ثم حجة ان مصر تستفيد اقتصاديا وعسكريا من هذه العلاقة عن طريق المعونة الاقتصادية والعسكرية السنوية التي تتعدى ملياري دولار.. علاقة كلها مكاسب.
وكانت حججي المضادة كثيرا اهمها بالطبع سياسة الهيمنة الاميركية التي استعادت روح الاستعمار الاوروبي القديم وفرضها الشروط القاسية للتبعية وتقديم مصالحها الحيوية حتى على امننا القومي خصوصا فيما يتعلق باسرائيل اما المساعدات فمعظمها يعود مرة اخرى الى شرايين الاقتصاد الاميركي والكل يعلم فالعلاقة ليست كلها مكاسب لكن خسائرها بالنسبة لنا هي الاكبر وحين تحقق أميركا أهدافها وتستنفد أغراضها، ستزيحنا من جنتها وتلغي معوناتها، وتتدخل في صميم شؤوننا الداخلية، بصرف النظر عن هتافات جماعات المتأمركين العرب، التي كانت في قمة نشاطها الدعائي لكل ما هو أميركي آنذاك!
أصبح الموقف الآن مختلفا بعض الشيء، وأصبح الضغط الأميركي على مصر علنيا ومستفزا، بأكثر مما هو على دول عربية أخرى، لم تقدم لأميركا ما قدمته مصر طوال العقود الأخيرة، وأصبح ما حذرنا منه قبل سنوات حول طبيعة علاقاتنا غير المتوازنة مع أميركا، ونتائجها السلبية الظاهر منها والباطن، واقعا حيا، بل أصبح تدخلا سافرا في الشؤون الداخلية ومهددا للمصالح الوطنية والقومية!
......
ربما يكون الخطاب الهجومي الذي ألقاه الرئيس الأميركي بوش في العاصمة التشيكية براغ قبل أيام، واحدا من سلسلة هجمات علنية ضد مصر، فقد كان الأعنف في نقد التباطؤ الديمقراطي والتعديلات الدستورية وأوضاع حقوق الإنسان، وسجن المعارضين واستعدادات التوريث ودعم المنشقين والمعارضين للنظام، لكنه لم يكن الأول ولن يكون الأخير، وفي ظل التجارب السابقة، كان يمكن أن يمر كما مر غيره، وخصوصا محاضرة كوندوليزا رايس الشهيرة في الجامعة الأميركية عام 2005.
لكن واشنطن دفعت الأمور المتأزمة إلى مسافة أبعد، حين استخدمت الكونغرس للتهديد بإنقاص المعونات العسكرية بعد أن خفضت من قبل المعونات الاقتصادية.. فقد وافقت لجنة المخصصات بمجلس النواب على مشروع قانون للمعونة الخارجية لعام 2008، يتضمن حجز أو خصم 200 مليون دولار من المعونة العسكرية لمصر، سلاحا للضغط لكي تحسن «مصر» سجلها في حقوق الإنسان والإسراع بالاصلاح الديمقراطي وإصلاح النظام القضائي.
ولم تكن هذه الخطوة منفصلة عما تزدحم به الدوائر السياسية والإعلامية الأميركية، من انتقادات ساخنة وهجمات حادة ضد النظام في مصر وسياساته الداخلية والإقليمية والدولية، منقلبة من المديح بالأمس إلى الهجوم والابتزاز اليوم، الأمر الذي قد يتصاعد غدا، لأسباب مصرية وأخرى أميركية.
وقد يتصور البعض أن سر هذه الهجمة الأميركية على مصر وغيرها من الدول العربية الأخرى، يتعلق باللهفة الأميركية على نشر الديمقراطية في المنطقة، على غرار ما قرأنا لاعلام المتأمركين العرب.. غير أن الأمر أبعد من ذلك، وما الديمقراطية إلا مجرد «فزاعة» تلوح بها واشنطن في وجه الحكومات العربية، لأنها تعرف نقطة ضعفها.. أما الأهداف الاستراتيجية الأميركية فهي أبعد عن هذه الفزاعة وهو امر واضح للعيان منذ ان اطلق كولن باول وزير الخارجية الاميركية السابق مبادرة الشراكة في الشرق الاوسط عام 2003 ومنها ما يتعلق بنشر الديمقراطية، وأثق ان ما ألهب الحملة الاميركية الحالية ضد مصر تحديدا ليس التباطؤ الديمقراطي ولكن ملفات اقليمية كثيرة اشتعلت في المنطقة فألهبت القدم الثقيلة وعكرت المزاج الاميركي الذي توقع ان تهب مصر تحديدا لدعمه ومساندته فاذا به يجد من مصر رفضا مبطنا او اعتذارا مؤدبا دون الرغبة في الوصول الى حد الصدام المباشر، لقد اعترضت مصر على الغزو الاميركي للعراق ورفضت الطلب الاميركي بارسال قوات مصرية سواء في اطار ما يسمى قوات التحالف الدولي او للمساعدة في ضبط الامن ووقف الاقتتال الطائفي، ورفضت مصر الانحياز الاميركي المطلق لاسرائيل وفرض الحصار على الفلسطينيين ورفضت محاصرة سوريا واختراق لبنان ورفضت التدخل الدولي الاميركي في دارفور السودانية لان الرؤية للامن القومي لمصر والعرب لا تلتقي بالضرورة مع الرؤية الاميركية الصهيونية، ولقد فوجئت الادارة الاميركية مؤخرا بالدور المصري النشط المعارض، لمخطط انشاء قيادة مركزية اميركية جديدة في افريقيا، والواضح ان واشنطن كانت تريد اقامة مقر هذه القيادة في مصر او ليبيا فلما رفضتا اتجهت بالضغط والاغراء نحو تشاد فارتفعت الشكوى التشادية الضمنية فهي لا تريد قبول هذا المخطط الاستعماري لكنها لا تستطيع ان ترفضه ولا تقدر على العداء الاميركي العلني، ومن باب التفصيل والاضافة نقول ان اميركا تريد قاعدة انطلاق وانقضاض قريبة من دارفور، لكي تستطيع اقتحامها والسيطرة عليها من مواقع قريبة وهل هناك اقرب لدار فور من مصر وليبيا وتشاد، وتأملوا الخريطة!!
......
نستطيع اذن ان ننتقد السياسات المصرية و العربية في تعاملها مع واشنطن ونستطيع ايضا ان نهاجم السياسات الاميركية الاستعمارية الجديدة في تعاملها مع مصر والعرب، ونظرتها الدونية لهم باعتبارهم عملاء وتابعين عليهم السمع والطاعة ما داموا تحت حمايتها وهيمنتها ورغد مساعداتها! لكن المؤكد ان هذه كلها سياسات قاصرة وعلاقات مختلة يتحمل وزرها طرفا المعادلة الذين فرضوا قسرا والذين قبلوا طوعا ذات يوم.. فما الجديد اذن الذي يقلق الطرفين؟! اظن ان الجديد هو الغليان الذي يعصف بالمنطقة العربية من مشرقها الى مغربها الدماء المسالة والحروب الطائفية والصراعات والغزوات الاجنبية والشبكات الارهابية، وقد ولد كل ذلك احتقانا شديدا بين الشعوب توجه هجومه الاول نحو الذين فرضوا قسرا وتوجه هجومه الثاني نحو الذين قبلوا طوعا وانكشفت سوءات العلاقات غير المتوازنة مع اميركا بوجهها القبيح تلك التي على الكيان والوطن والامن القومي وعلى الحرية وحقوق الانسان وعلى زيادة الفقراء فقرا وعددا لحساب قلة من الاثرياء الجدد وايضا قلة من المتأمركين الجدد.
هكذا نحن الآن في مأزق، اميركا تضغط على حكوماتنا الرشيدة وتبتزها ولديها اسلحتها الفتاكة وحكوماتنا كعادتها تناور وتراوغ تقبل وترفض ثم تقبل وشعوبنا تغلي من فجيعة الازمة وهول المأزق فتدين الجميع حتى وهي لا تجد حتى الآن طريقا للنجاة ومنفذا للخروج.
ولا حل في يقيني الا اعادة صياغة هذه العلاقات المعقدة المختلة على اسس جديدة كما فعلت دول اخرى مثل الهند والبرازيل بنت مواقفها على اسس تحصين الارادة الوطنية والمناعة القومية المستقلة ليس بالشعارات والهتافات وليس بمجرد تصريحات الرفض والاعتراض علنا ثم التوافق سرا، ولكن بسلاحي الديمقراطية والاصلاحات الحقيقية وبالتنمية الشاملة الهادفة لتحقيق العدالة الاجتماعية لجموع الناس حتى ترضى وتقاوم.
ودون ذلك سيبقى الضغط والاكراه والابتزاز من جانب القوي «المفتري» على الضعيف الخائف (المستكين).
خير الكلام: يقول الحلاج مناجيا:
قالوا تداو به منه فقلت لهم
يا قوم هل يتداوى الداء بالد