لكل حرب صورتها المميزة التي تلتقط جوهرها، وما الحرب الأهلية الفلسطينية سوى مثال آخر على ذلك. وفي هذا الصدد سأختار صورة يظهر فيها مقاتل تابع لحركة "حماس" في غزة يتسكع داخل مكتب أحد كبار قادة حركة "فتح" بعد أن بسط سيطرته عليه. وفي الصورة بدا مقاتل "حماس"، الذي كان يرتدي سروالاً من الجينز، مستلقياً على كرسي مزركش يحمل في يدٍ بندقيته وممسكاً الهاتف باليد الأخرى متحدثاً من خلال فتحة القناع الذي يضعه على وجهه، وهو ما ولّد لدي انطباعاً خاصاً بأن أمراً مرعباً يجري في غزة. وفي مقال للكاتب والمحلل السياسي "فؤاد عجمي" نُشر يوم الثلاثاء الماضي في "نيويورك تايمز"، قرأت وصفاً دقيقاً لطرفي الحرب الأهلية الفلسطينية على أنها حرب بين "رجال فتح المُقنَّعين" ضد "رجال حماس المقنَّعين". والواقع أن إقدام الطرفين معاً على ارتداء الأقنعة يعد أحد الملامح المميزة لهذه الحرب الأهلية التي تثير في نفسي سؤالين اثنين.
أولاً، لماذا كان مقاتلو "فتح" و"حماس" يرتدون معاً الأقنعة؟ وثانياً أين يمكن شراء تلك الأقنعة في غزة؟ وهنا يحضرني الأديب الأيرلندي "أوسكار وايلد"، الذي قال "أعطِ رجلاً قناعاً وسيخبرك الحقيقة". فما الحقيقة التي ترشح عندما يضع المقاتلون في كلا الطرفين خلال هذه الحرب الأهلية (وفي تلك الدائرة في العراق) الأقنعة على وجوههم؟ الجواب الأول يكمن في العادة، حيث اعتاد مقاتلو "حماس" ارتداء الأقنعة عندما يواجهون إسرائيل حتى لا تتعرف عليهم ويتعرضون للعقاب. لكن في 16 من شهر يونيو الجاري نقلت وكالة "رويترز" عن متحدث باسم "حماس" قوله إن على الفلسطينيين ألا يرتدوا الأقنعة في حربهم الداخلية. وأضاف "خالد أبو هلال" قائلاً "يتعين حصر ارتداء الأقنعة فقط بالقرب من الحدود ولمحاربة العدو الصهيوني، وليس في الشوارع وبالقرب من بيوت الناس".
غير أن بعض العادات المألوفة، لاسيما السيئة منها يصعب الإقلاع عنها، بل قد ينتهي بها الأمر، وهي تلف مجتمعك الخاص بقدر ما تلاحق مجتمع العدو. وما عليك للتأكد من ذلك سوى النظر إلى ما يجرى في غزة: فإذا كان عادياً ارتداء الأقنعة عند مواجهة اليهود، فإنه يصبح في النهاية عادياً أيضاً ارتداء الأقنعة لمواجهة فلسطينيين آخرين. وإذا كان أمراً عادياً أن تستخدم التفجيرات الانتحارية ضد اليهود، فمع مرور الوقت يغدو عادياً أيضاً استخدامها ضد مسلمين آخرين، فكما تدين تُدان. لكن بالإضافة إلى العادات القديمة والمستحكمة، هناك أيضاً شعور بالعار والخزي. فالمقاتلون الفلسطينيون يرتدون الأقنعة ليس فقط للاختباء من النظرة الفاحصة لإسرائيل، لكن أيضاً للاختباء من النظرة الفاحصة للآباء والأصدقاء والجيران. فبعد تاريخ طويل دأب العرب فيه على إبراز عدالة الصراع الفلسطيني ونبله للحصول على دولة مستقلة، لاشك أن قتل الفلسطينيين لإخوانهم، ورميهم من فوق أسطح البنايات، وسحْل بعضهم بعضاً بعد جرهم من أسرَّة المستشفيات، ثم تمزيق المجتمع الفلسطيني في صراع سافر على السلطة، ينطوي على قدر كبير من الخزي والعار. فليس هناك ما يدعو إلى الفخر في هذا الاقتتال، لذلك آثر الكثيرون، حسب رأيي الشخصي، ارتداء الأقنعة وإخفاء وجوههم. فالقناع يحمي من العار، وفي الوقت نفسه يحرر الشخص كي يقتل إخوانه، بل وحتى أبناءه.
والأكثر من ذلك أن وضع القناع، يعتبر وسيلة لاكتساب القوة وتكريس الإحساس بالرجولة. فالأشخاص الذين يرتدون أقنعة سوداء هم دائماً أكثر رعباً، ليس فقط من ناحية الشكل والمظهر، بل أيضاً لأن هويتهم المجهولة، تنفي مسؤوليتهم أمام القانون. والمعتاد في مجتمعاتنا أن اللصوص فقط، والمغتصبين، أو أفراد جماعة "كو كلوكس كلان" العنصرية، يرتدون الأقنعة، وذلك إما لترويع الناس، أو لتسهيل عملية انتهاك القانون. والحقيقة أن القناع لا يقول سوى شيء واحد "إنني لا أتقيد بالقواعد، لذا عليكم أن تخشوني". وتصوروا كيف ستشعرون بالطمأنينة إذا وقعتم في أسر رجال عسكريين، وكيف سيتملككم الرعب إذا أسرتم من قبل شخص يضع قناعاً على وجهه. لكن بالنظر إلى الانهيار العام الذي يسود مجتمعات مثل العراق ولبنان والأراضي الفلسطينية فقد يتحول الأسر على يد عسكريين حلماً بعيد المنال، بعد أن أصبحت الحروب ضد الرجال والعصابات المقنعة، بهويات أفرادها وأجنداتهم وقواعدهم وتطلعاتهم المجهولة، القاعدة وليس الاستثناء.
ويعبر عن هذا الواقع الجديد المنظر السياسي "يارون إزراحي" بقوله "لقد أصبحت تلك الأقنعة بمثابة زي عسكري ترتديه الجيوش في القرن الحادي والعشرين، ونوعاً جديداً من العنف" الذي في حالة العراق ولبنان وغزة "لم يعد يفرق بين الحرب ضد الغريب والحرب ضد أفراد المجتمع، وكما أن هذا العنف الجديد ليست له جبهة، فإنه أيضاً ليس له وجه ولا حدود". لذا ثمة شيء آخر تعلن عنه تلك الأقنعة: هؤلاء الرجال لا يُبلغون رؤساءهم بما يجري، وهم لا رتبة لهم، كما أنه لا أحد من القادة يستطيع التأكد من ولائهم. فكل رجل مقنَّع هو جنرال لنفسه، وكل ميليشيا هي مزيج من عصابة إجرامية ذاتية التمويل، وجيش عصري. وعليكم أن تتعودوا على رؤية ذلك في ظل محيط يتسم بهوة سحيقة، تفصل بين عالم النظام وعالم الفوضى. فمن الآن فصاعداً توقعوا بروز العديد من المواجهات بين الجيوش في زيها وخوذاتها العسكرية، وبين الجيوش ترتدي الأقنعة وسراويل الجينز.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)