يرقى التعويل على المقاومة بوصفها شرعيّةً لحياة مستقبليّة الى تأسيس للاستبداد بحقّ جزء من الشعب لم ير رأي الطرف المقاوم، أو انكفأ، لهذا السبب أو ذاك، عنها. إلاّ أن التعويل هذا لا يلبث أن يتعاظم كلّما كانت الشرعيّة الأصليّة أضعف والتقاليد السياسيّة أشدّ وهناً. والراهن أن مشكلة الشرعيّة مع المقاومة أن الأولى مفهوم مدنيّ يتّصل بالإرادة الشعبيّة كما تعبّر عن نفسها في زمن سلميّ تعريفاً، فضلاً عن اتّصالها الوثيق بسلطة معيّنة تبلورها وتجلوها في دولة ما. وهذا كلّه مما ينتفي وجوده في حالات الغزو والاحتلال ومن ثمّ المقاومة. فمع العنف تتعطّل تلك العناصر بوصفها معايير يُحتكَم إليها ليحلّ محلّها الخيار الايديولوجيّ، أو الأهليّ المموّه إيديولوجيّاً، الذي يستقي «شرعيّته» من تقديره لما هو حقّ وما هو خطأ، وما هو «معنا» وما هو «ضدّنا». وقد يكون التقدير هذا صائباً أو لا يكون، غير أنه يندرج في خانة تغاير الخانة التي تندرج فيها الشرعيّة ومسائلها. وهو جميعاً ما يجعل من العبث الوصول لاحقاً، بعد بلوغ المقاومات السلطة، الى تأسيس صلب لشرعيّة دستوريّة، بل غالباً ما تترافق الاستحالة هذه مع تصفيات دمويّة موسّعة تحلّ ببعض أطراف السلطة الناهضة على «شرعيّة» المقاومة.

فالأخيرة التي عبّدت طريقها بالعنف تطلب، بعد إحرازها الانتصار، حدّاً أقصى من التعويض، هو غالباً مما يضادّ الطبيعة ولا تقوى تركيبة البلد المعنيّ وتركيبة أهله على منحها إيّاه. وهذا ما تنمّ عنه فولكلوريّات المقاومات ورمزيّاتها: فالمقاوم لا يقتصد في طلب التمجيد، إذ أنه ليس جنديّاً مجهولاً يكتفي بالتكريم الرمزيّ، بل المقاومون هم الذين لا يفعل سقوطهم شهداء إلاّ إشهارهم وجعلهم ذوي ملصقات تجتاح الفضاء العامّ، فيما تقف فوقهم قيادة تشدّهم إليها تراتبيّة غاشمة، طامحة الى حكم البلد بأسره. وهذه، بطبيعة الحال، ليست كمثل قيادات الجيوش في البلدان الديموقراطيّة التي يقف دورها عند تنفيذ أوامر السياسيّين المنتَخبين. وهو جميعاً تركيب يكابد ويجهد للحفاظ على قيد الحياة، فلا يتعرّض للحلّ والتسريح إلاّ متى أصبح هو نفسه السلطة، ولا يتوقّف مرّة عن تعميم تضحياته التي لا تلبث أن تتحوّل مادّة للمقايضة الضمنيّة مع المجتمع. هكذا تُنتزع من الأخير سلطته ويُستَولى على إدارة شؤونه، سيّما وأن المقاومين أكثر تعطّشاً الى السلطة بسبب صدورهم عن بيئات مقصيّة تاريخيّاً عنها، أنُظر إليها كنفوذ سياسيّ أم كمصالح وامتيازات اقتصاديّة تنجرّ عن النفوذ ذاك. وأمام إلحاح متعدّد المصادر كهذا، تضعنا المقاومات الظافرة أمام احتمالين أحلاهما مُرّ: إما أن تحكم وينشأ الاستبداد، وإما ألاّ تحكم وتندلع الحرب الأهليّة. وغنيّ عن القول إن الذين يخرجون في مجتمعاتنا المفتّتة والضعيفة الإجماعات عن المقاومة أو عليها، والذين قد يؤسّسون مقاومة لمقاومتها، قد لا يكونون أقليّة مجهريّة من «العملاء»، بل ربما كانوا، في حالات عدّة، أكثريّة الشعب و»الجماهير».

كذلك فالعنصر الإيديولوجيّ والفكريّ يكاد يكون معدوماً في العمل المقاوم، وكلما امتدّت المواجهة العنفيّة في الزمن زاد ضمور العنصر المذكور لتنقلب «ثقافة المقاومة» الى سلسلة من أفعال انتهازيّة تجيز التعاون مع العدوّ الأصليّ الغازي، الذي يُفترض أنه علّة وجود المقاومة، لإنزال القهر بالطرف الداخليّ الآخر. وهذا ما شهدته مقاومات كثيرة في عدادها بعض أشهرها، كتلك اليوغوسلافيّة التي قادها الماريشال تيتو ورأت في التقاطع مع النازيّين فرصتها للتخلّص من «الشتنكس» الصربيّة، وهي أيضاً طرف مقاوم، وكذلك من «الأوستاشي» الكرواتيّة. والسمة هذه لا ينعدم ارتباطها الوثيق بواقع أن معظم المقاومات، الوطنيّة دعوةً والتجمّعيّة فعلاً، لا تملك في ذاتها عناصر كافية لإرساء هيمنة مضادّة للهيمنة التي تقاومها، وأهمّ ما تملكه، بحكم طبيعتها وظروف نشأتها، هو العنف في وجه عنفها.

لهذا نرى المقاومات قاطرات لشيوع التعريف الذاتيّ السلبيّ، فيسود معها التعريف بالضديّة للطرف الآخر بدلاً من تعريف الطرف بذاته. وهذا إذا ما وجد مبرّراته في حالات قصوى كمقاومة النازيّة، غير أنه يترك من الفجوات في تعقّل السياسة ما تملأه، بعد بلوغ التحرير والإمساك بالسلطة، الانتهازيّة السلطويّة والعنف العشوائيّ الأعمى.

والحقّ أن العنف يعاند السياسة ويجافيها على نحو دائم، أو أن هذا، على الأقلّ، ما تقوله تجربة غنيّة كتجربة الماركسيّة التي هي إحدى أكثر الإيديولوجيّات الحديثة إنبناءً على فكرة الصراع. فقد قُيّض لها أن تستعرض، المرّة بعد المرّة، ذاك الفارق المانع بين العنف والقابليّة السياسيّة. وكان لهنه أرنت أن أخذت على اليسار الجديد، وقبله على ماوتسي تونغ، نقل موضع التركيز في الماركسيّة من «عمليّة الانتاج» الى العنف حيث، على ما قال ماو، «تنبثق السلطة من فوهة البندقيّة». فإذا صحّ أن ماركسيّة ماركس، وخصوصاً إنغلز، أعطت حيّزاً مرموقاً للعنف، بقي أن هذا الأخير ظلّ الطلق الذي يرافق الولادة الثوريّة وليس سببها.

ثم إن ما هو طبيعيّ في اللجؤ الى فعل المقاومة، أي الردّ العفويّ على غزو الغريب أو احتلاله، يبقى حدثاً اضطراريّاً وغير باعث على السعادة والتهليل، تبعاً لاستخدام القوّة وما يترتّب عليه من ألم، تماماً كما أن الغزو، أو الاحتلال، عمل لا يبعث على السعادة طبعاً. ذاك أن من يُضطرّ الى قتل مغتصِبه لا يصوّر فعلته عملاً مجيداً تُعَدّ له الأجيال جيلاً بعد جيل، بل يصوّره كاضطرار بشع أملاه سلوك بشع. فالمقاومة عنف لا بدّ أن يستحضره العنف الاستعماريّ ويؤجّجه، وهو ردّ لا بدّ أن يستثيره الامتهان والإذلال عند من يتعرّض لهما، وذلك من دون ظافريّة أو احتفاليّة مبالغ فيها. لكن العنف، في تقاليد الايديولوجيّات الصراعيّة، لا يُقدّم كسلوك يؤسف له، أو كلحظة عارضة ينبغي تدبّر الخروج منها بأسرع ما يمكن، بل يتحوّل عملاً غنائيّاً ممجّداً يعبّر عن الحيويّة التي يختزنها الشعب وطاقته السياسيّة.

بيد أن المفارقة التي يطرحها إشكال المقاومة أن لغةً كهذه، مقتصدة ووظيفيّة في تقديمها، لا تسهّل مهمّة استقطاب المقاومين وتعبئة الجمهور الحاضن لها، فيما تمجيدها الذي يعزّز الاستقطاب والتعبئة، يقصّر الطريق نحو تعبيد «الشرعيّة» الثوريّة والاستبداديّة بعد تحقيق النصر. وعلى النحو هذا، يترتّب على انهيار النصاب السلميّ، بفعل الغزو كما بفعل مقاومته، تراجع في القدرة على الخيار الواعي وانجراف متنامٍ في العنف يمليه تبادل العنف نفسه.

وهنا لا بدّ من التوقّف عند العبارة المتكرّرة من أن كلّ احتلال لا بدّ أن ينتج مقاومته: فالمقولة - المعادلة هذه حين تقال وصفيّاً، تكون صحيحة بوصفها تقريراً لواقع بعينه. أما حين تأتي على شكل وصفة إطلاقيّة، فتبدو لاتاريخيّة، مثل شعارات كالإسلام هو الحلّ، شعاراتٍ لا تعبأ بتحوّلات المجتمع ولا بقدراته وانقساماته، كما لا تكترث، مثلاً لا حصراً، بمدى بحبوحة المجتمع المعنيّ وانعكاسها على طاقة المقاومة لديه، أو باستطاعته الوقوع على وسائل سياسيّة تؤدّي الغرض المنويّ بعيداً من اللجؤ الى المقاومة، إذ ليس الاستسلام، بالضرورة، نقيضها الدائم والثابت.

وربّما كان فرانس فانون أكبر العاملين على تحويل المعادلة النسبيّة الى وصفة إطلاقيّة تصير معها المقاومة بذاتها هي الهدف. فالطبيب النفسيّ المولود في المارتينيك هزّته، من خلال عمله في المستشفى العسكري الفرنسي في بليدة بالجزائر، آثار التعذيب على أشخاص المعذَّبين والمعذِّبين سواء بسواء. لكنّه أحسّ بخوف استباقيّ من أن ينشأ تطوّر جزائريّ سلميّ نحو الاستقلال، كان راقب بنفسه بعض بواكيره في أفريقيا السوداء. واحتمال كهذا عنى لديه نقل السلطة من الاستعمار الى بورجوازيّة أفريقيّة أكثر طفيليّة وفساداً من الأوروبيّين، حتى أن المستعمِر السابق «سوف يبذل من الجهد الأقلّ فالأقلّ ليخفي السيطرة التي له على الحكومة الوطنية».

فقد أرعبه الاستقلال بوصفه خيانة، فدعا إلى إهلاك الحواضر المدينيّة للدول الأفريقيّة الجديدة، إذ هي مواقع للظلم الامبرياليّ، فـ»حياة العاصمة، وهي كليّاً حياة مصطنعة تمّ إقحامها في الحياة الوطنيّة الفعليّة كجسم غريب، ينبغي أن تحظى بأقلّ فسحة ممكنة في حياة الأمّة».

وهنا تتسابق العدميّة مع وظيفيّة لا تستطيع القداسة المزعومة في المقاومات أن تسترها أو أن تحجبها.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)