الذين أجادوا قراءة الموقف الغربي – الأمريكي – الأوروبي ، بعد نجاح منظمة حماس في الانتخابات الديمقراطية التي جرت في فلسطين المحتلة ، لم يفاجؤا بالنتائج التي أفرزتها قرارات مقاطعة وحصار الحكومة الوطنية الفلسطينية وقبلها حكومة حماس ذات اللون الواحد ، لقد كان الهدف ، ولا زال إسقاط مفهوم المقاومة ، وثقافة المقاومة وصولاً إلى القبول بكل مطالب العدو الصهيوني التي لم تعد خافية أبداً حتى على أبناء الداخل الفلسطيني ، وكشفت ورقة التوت عن المتعاملين – المكلفين العمل على دفن هذه الثقافة وفرض واقع جديد يؤدي إلى تجريد كل الفصائل من السلاح وانتظار دولة فلسطينية على قاعدة رؤية بوش الصهيونية وليس انطلاقاً من تحقيق عدالة دولية في حدها الأدنى .

عملية الحصار والتجويع التي فرضتها القرارات الصهيونية وخطط حكومة أولمرت – بوش ، وتعاون أوروبي ، وتواطؤ عربي ، كانت في أحد وجوهها الدافع الرئيس لإثارة المشاكل بوجه حماس والحكومة التي شكلتها ، وإثارة باقي الفصائل ، وأبناء الشعب الفلسطيني وتحريض الجميع على هذا الفصيل وحكومته باعتبارهما السبب الرئيس في كل ما حصل ويحصل ، وكان الرئيس الفلسطيني والطاقم المحيط به على دراية تامة بما ستؤدي إليه نتائج الحصار والقطيعة ، وتقنين كل شيء ، بقصد تثبيت تفكير ونظر الشعب الفلسطيني على اللقمة وطرح باقي المشاكل جانباً فالجائع لا يفكر بأكثر من اللقمة وهذا ما طرحته شرائح الشعب الفلسطيني من موظفين حكوميين على اختلاف تخصصاتهم من الأمن وصولاً إلى الصحة والتعليم ، وعبروا عن ذلك إما بالإضراب أو الاعتصام أو احتلال مراكز الحكومة ... أو المناشدات الموجهة للأشقاء من العرب الصامتين ، وحتى الذين قرروا كسر الحصار بقرار رسمي ، لم يتمكنوا من فعل أكثر من الكلام ، لتبقى مفاتيح الخزائن وأبوابها ومزاريبها بيد الأمريكي – الصهيوني الذي يسيطر عملياً على الأبواب والنوافذ والمجاري ، وحتى المنابع والروافد .

إن ما يحصل على أرض الواقع في غزة ، والضفة ، وحتى داخل مخيمات الشتات إنما هو مخطط متكامل ، يتم تحريك عناصره في المكان المناسب والزمن المناسب لتحقيق غرض محدود ، هذا مؤكد بالأدلة القاطعة ، وهناك أدوات داخلية ، وعربية تتعاون وتنسق وتنفذ ، وعلى الأقل تقدم المعلومات والاستشارة الفنية التي لا تنقص العدو بعد أن تمكن من الدخول حتى النخاع العظمي في الحياة الفلسطينية والكثير من العربية دون تسمية ، لكن ما لا يدركه كثيرون من أبناء هذه الأمة المبتلية أن دولة فلسطينية بمعنى الدولة الحقيقية لن يقوم مطلقاً طالما تنازل كثير من العرب عن قدرة الفعل ، البعض إرادياً ، وقلة بشكل قسري ، الذين اقتنعوا وأرادوا ، وتعاونوا ، إنما كان عملهم عن قناعة وتسويق مصالح شخصية ، وتفضيلها على أية مصالح قومية أصبحت مفاهيمها من الماضي ، ومن لا يدرك ويستشرف بعض الخطط التي توضحت مقدماتها هو أشبه بمن يدفن رأسه في الرمال .

ليس مناسباً للكيان الصهيوني ، ولا للمصالح الأمريكية أن تقوم حكومة فلسطينية طالما يمتلك الفلسطينيون ، أغلبهم على الأقل – دينامية الحركة والقدرة على التطور السريع ، وهم قد يشكلون نواة القوة التي قد تفعل لتغير وجه تاريخ المنطقة ولو بعد زمن ، ومع أن أي شكل لدولة فلسطينية حسب رؤية بوش ستكون مجرد معازل من قطعتين أو أكثر ، محاطة بأسوار برية ، وسماء ممنوعة ، ومياه محظورة ، ومعابر مقننة وبالتالي فإن الشكل المنتظر للدولة لن يكون قابلاً للحياة على عكس نظرية ، ومقولة الرئيس الأمريكي الأبله بطبيعة الحال .

التفكير الجديد المتداول سراً ، غير المعلن ، يقضي بموقف موحد من جانبين – داخلي تتبناه السلطة الفلسطينية بدعم خارجي دولي ، وبالتحديد صهيوني – أمريكي ، لتجريد الفصائل غير المنضبطة – أمريكياً - ودفع هذه الفصائل للتسليم بالشروط التي ارتهنت لها السلطة ، وخارجي تتبناه دول جوار عربي تشارك بالحل بطريقة يمكن معها السيطرة على الفلسطينيين ووضعهم تحت وصاية من نوع آخر ، ليس العودة إلى حالة ما قبل نكسة 1967 ، إنما أشبه بها من حيث الجوهر ، كأن يتم وضع قطاع غزة تحت شبه وصاية مصرية من حيث الارتباط الحياتي ( أي تموينياً ، بكل تفاصيل عملية التموين ) وسياسياً مع السلطة الفلسطينية ( شكلاً ) بعد تجريد القطاع من السلاح دون توفير معبر آمن لتواصل القطاع والضفة ... وهذا وضع لا تمانع الدولة المصرية بقيامه في حال زيادة المعونة الأمريكية ، والحصول على شروط أفضل للعمل ، ومجال نفوذ أوسع ، وأما الضفة الغربية ، بالأحرى ما تبقى منها بعد توسيع المستوطنات ، وتثبيت جدار العار الحديث ، فهي ستأخذ شكل الإدارة شبه الذاتية ، دون سيطرة على العناصر الثلاثة الأهم ، وهم الأجواء والماء والحدود ، وهذا الشكل من الإدارة لا بد من إيجاد مخرج لمشاكله ( وخاصة العلاقات الخارجية ) ، وقد يكون المخرج إقامة كونفدرالية بينه وبين الأردن الذي يقبل حكماً بهكذا حل ، وأيضاً مقابل مساعدات ومعونات أمريكية – بريطانية مشتركة ، وهي في حقيقتها ثمناً لتوفير أمن الاستيطان واستكمال المشروع الصهيوني المتعثر ... لكن قبل ذلك لا بد من تحجيم كل الحركات التي قلنا أنها غير منضبطة بالمفهوم الصهيو – أمريكي ، وتجريدها من السلاح بشكل تام ، ووضعها تحت مجهر المراقبة ، وهذا ما بدأ الإعلان عنه تحت شعار لا سلاح بعيداً عن أيدي أجهزة السلطة ، وأما عملية التجريد فستبدأ في القريب غير المتوقع بعد استكمال تجهيز السلطة بما يلزم حسب الإعلان الأمريكي ، وهذه عملية تحمل في صلبها مخاطر أين منها ما جرى في غزة ، إذ يعتبر مجرد لعبة أطفال بدائية .

صحيح أن ما جرى في غزة – ما تم نشره سواء كان حقيقة أو مفبركاً أو مضخماً ، فإن العملية بحد ذاتها مرفوضة ، وهي كسر لقاعدة اختطها الفلسطينيون وكانت مضرب مثل أي ( الدم الفلسطيني خط أحمر ) وإذا كنا نشهد هجوماً إعلامياً متنامياً على حماس من كل الجهات ، فإن أسباب ودوافع حماس قد يكون لها ما يبررها خاصة وأن ما من سوري ، أو عربي إلا ويعلم كيف تمت تنشئة بعض الأفراد من السلطة الفلسطينية وتدريبهم وإعدادهم لساعة الحاجة ، وربما تحين ساعة التخلص من رئيس السلطة بسبب استنفاذ دوره ، لنشهد قفزة من أحد هؤلاء إلى سدة السلطة وهي شكلية بطبيعة الحال وتتبع الأمريكي ، باعتباره الوكيل ، ونعرف الأصيل .. دون حاجة لمزيد من البحث والتنقيب .

إن ردود الفعل على ما حصل في غزة من ملاحقة لأركان حماس في الضفة ومنظر اعتقال البعض منهم على شاشات الفضائيات ( يقودهم أفراد من أمن السلطة وهم يشبعونهم ضرباً ولكماً وجرجرة ) تماماً نفس الأسلوب الذي نعهده من القوات الصهيونية عند اعتقال نشطاء الانتفاضة ، دون فرق يذكر ، ولا استثناء لسلوك رجال حماس في غزة بالمثل ، إنما ينبئ عن مدى الاحتقان وحجم المخطط والمدى الذي قد يصله في حالة التنفيذ الكامل ... وكل هذا أمور تبعث على الأسى والأسف ... لقد حطم الفلسطينيون كل جرار الاتفاقات حتى ما وقعوا عليه في مكة باعتبارها مكان مقدس ، ومن يتجاوز المقدس ، لم يعد قادراً على إنجاز اتفاقات قابلة للحياة .

هل هي نهاية المطاف ...؟ بالتأكيد لا ، فالتداعيات ستنتقل كدوائر الماء باتجاه مخيمات المنافي والشتات ، وسيكون اصطفاف ، وما علمناه عن رفض الأسرى لعملية عزل الفتحاوي عن الحمساوي في معتقلات العدو ، قد لا يتكرر خارج السجون ، ... وماذا بعد غزة ، وبعد .. بعد غزة ..؟ .
أمريكا ، والصهيونية تخفيان الكثير ، والبعض في عالمنا العربي في جعبته الكثير ... أيضاً ..
ودائماً المخفي أعظم .