بعد تردد تجاوزت مدته عاماً ونيف استجاب إيهود أولمرت لبعض قيادة جيشه وأجهزة أمنه وضغوط سياسيين إسرائيليين من الوسط واليسار داخل حكومته وخارجها وأعلن نيته (عقد مفاوضات سلام مع سورية بدون شروط مسبقة) وتتالت التصريحات من قادة إسرائيليين آخرين (موفاز، ليفني، بيرتس وغيرهم) .

لكنهم في الواقع كبّلوا هذا القبول اللفظي بمزيد من الشروط على رأسها قطع سورية علاقتها بإيران وحزب الله والمنظمات الفلسطينية، أي تغيير استراتيجيتها وإبطال دورها السياسي في المنطقة وعزل نفسها عن القضايا الإقليمية والتخلي عن أوراقها وذلك قبل بدء المفاوضات.

وهكذا كذّب أولمرت نفسه عندما قال بمفاوضات بدون شروط لأنه في الواقع وضع أقسى الشروط وطلب من سورية أن تطرح جانباً جميع مصادر قوتها وتعرّي نفسها كي يقبل مجرد الجلوس على طاولة المفاوضات معها دون أن يتبين أحد إلى أين تقود هذه المفاوضات ومدى إمكانية نجاحها.

يبدو أن إيهود أولمرت يحتاج لمثل هذا الإعلان الذي يعبر عن رغبته عقد المفاوضات لا من أجل الوصول إلى تسوية بل لحل مشكلات داخلية، بعد أن تدنت شعبيته أكثر من أي رئيس حكومة إسرائيلية خلال خمسين عاماً، ومازال ينتظر الأسوأ من خلال نتائج تقرير لجنة فينوغراد المتعلقة بالعدوان على لبنان الذي سيصدر بعد بضعة أشهر، في الوقت الذي تخلخل الترابط بين قياديي حزبه.

وتململ حزب العمل من الشراكة معه وأعلنت أغلب تيارات هذا الحزب أنها لن تقبل أن يبقى أولمرت رئيساً للوزراء لمدة طويلة، وهذا بدون شك تهديد جدي لاستمرار زعامة رئيس حزب كاديما لحزبه وللحكومة، ولعل هذه الأسباب هي التي دعت الحكومة السورية لرفض عرض إيهود أولمرت .

لأنه يهدف من وراء مقترحاته إلى سد ثغرات داخلية وضعف داخلي، كما ويأمل أن يحقق في المفاوضات المفترضة مكاسب لا يستحقها ويصل إلى اتفاق مع سورية يناسب أهواءه يكون أقرب لاتفاق يفرضه طرف واحد، يستخدمه في بازار معاركه الداخلية.

إن الوصول إلى تسوية مع سورية هو في الواقع مسألة شديدة التعقيد بسبب اتساع الهوة بين مواقف كل من الطرفين إضافة إلى الظروف الدولية الراهنة والظروف العربية والإقليمية التي تهيئ المناخ للحكومة الإسرائيلية لتمارس مزيداً من التطرف وفرض الشروط علّها تحقق مكاسب كبيرة .

خاصة وأن المجتمع الإسرائيلي مازال غير ناضج للسلام يغشاه الصلف والطمع ولا يقبل سوى اتفاق إذعان إطاره قوننة الوضع القائم أي الاحتفاظ الواقعي بالأراضي السورية المحتلة ومياهها وتطبيع العلاقات تطبيعاً كاملاً وتسيّد إسرائيل على المنطقة ولا يهم عندها أن يعطى لسورية حق السيادة الشكلية على أراضيها المحتلة أم لا أو يتم استئجارها أو مبادلتها بأراض من بلدان عربية أخرى، وتكون إسرائيل بذلك حققت أمنيات أقصى عتاة متطرفيها.

تفرض تساؤلات نفسها في هذا المجال وهي: هل يمكن عقد تسوية سورية ـ إسرائيلية في الظروف الحالية دون أخذ ما يجري في فلسطين والعراق ولبنان بعين الاعتبار وبمعزل عنه؟ وهل يمكن أن يصل الطرفان إلى هذه التسوية دون مشاركة الولايات المتحدة أو موافقتها على الأقل؟

وهل هناك رغبة أميركية في المشاركة بالمفاوضات للوصول إلى هذه التسوية أو قبولها برغم سياستها المعلنة التي يذكرنا رجال إدارتها بها كل يوم وأقلها التضييق على سورية وعزلها ومقاطعتها وحصارها إن أمكن ذلك؟ وهل تقبل الولايات المتحدة أن تعطي التسوية المفترضة لسورية حقوقها.

مما يدعم نظامها السياسي دون أن تتخلى عن مشاركتها أو على الأقل دورها في معالجة الصراعات القائمة في الدول العربية المحيطة؟ وقبل ذلك هل هناك رغبة إسرائيلية حقيقية (مجتمعية وحكومية) بعقد تسوية مع سورية تحمل في طياتها النديّة والاعتراف بالحقوق والمصالح في إطار توازن القوى الحالي المختل لصالح إسرائيل؟

إن مجمل شروط التسوية التي تتحملها أو تنتجها الظروف في المنطقة لا توحي بهذه الإمكانية، وبالتالي فإن مزاعم الرغبة الإسرائيلية ببدء المفاوضات ما هي إلا لغو وألاعيب سياسية تهدف منها الحكومة الإسرائيلية تحقيق مكاسب داخلية في المجتمع الإسرائيلي وخارجية لدى الرأي العام العالمي وحكوماته وإن أمكن فرض شروطها على سورية.

كان إيهود باراك رئيساً للحكومة الإسرائيلية عام (2000) وجرت في ذلك العام مفاوضات بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة السورية برعاية مباشرة من الرئيس الأميركي بيل كلينتون، وقد وصل الطرفان مبدئياً في ذلك الوقت إلى ما يشبه الاتفاق على المبادئ الأساسية وأحياناً على التفاصيل وطبعاً على أسلوب التنفيذ والمدد الزمنية المطلوبة.

وكانت تجري على التوازي مفاوضات فلسطينية ـ إسرائيلية برعاية أميركية أيضاً قطعت بدورها شوطاً كبيراً باتجاه التسوية، إلا أن حكومة باراك تراجعت في الحالتين عما قبلت به، وفشلت المفاوضات، ودفع باراك منصبه ثمناً لقبوله المفاوضات وليس بسبب فشلها لأن المجتمع الإسرائيلي لم يكن يريد التسوية (وهو لا يريدها الآن).

فإذا كان هذا الحال مع حكومة حزب العمل الأقل تطرفاً في ذلك الوقت فكيف يمكن الآن قبول ما رفضته إسرائيل عام (2000)، والحكومة القائمة هي حكومة (كاديما) الأكثر تطرفاً من حكومة حزب العمل، والحال العربي أكثر ضعفاً وتعقيداً عما كان عليه، والحال الدولي أكثر نكوصاً عن دعم القضايا العربية حتى يكاد يسقط أسيراً للموقف الإسرائيلي؟.

ترفض إسرائيل منذ عقود التعامل مع الصراع العربي ـ الإسرائيلي كموضوع واحد موحد والتفاوض مع العرب جميعهم كطرف واحد مقابل وتصر على تجزئة هذا الصراع وإجراء المحادثات مع كل طرف عربي وحده، ولهذا فإنها تحاول الآن عزل الصراع السوري ـ الإسرائيلي عن سياقه التاريخي وعن أحداث المنطقة الحالية وأطراف الصراع الأخرى، وتستهدف التعامل مع سورية وكأن لا شأن لها بالوضع العربي القائم.

ولذلك فمن غير المتوقع أن تقدم الحكومة الإسرائيلية لسورية في أية مفاوضات الحد الأدنى من الحقوق السورية والمطالب السورية، وما الضجيج الإسرائيلي سوى ذر الرماد في العيون وكسب الوقت وتعويض فشل سياسة الحكومة في أكثر من مكان، وإيهام الرأي العام الدولي وسلطاته الرسمية بأن إسرائيل ترغب بالسلام وتسويق هذه الرغبة المزيفة، إنها تريد عقد إذعان لا اتفاقية تسوية.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)