يتمتع المغرب، أكثر من أي دولة أخرى في العالم العربي، بتاريخ طويل مستمر لوجود الاحزاب السياسية، بما فيها الاحزاب العلمانية، وكذلك تلك الاحزاب التي اعتبرت أحزابا اسلامية قبل ظهور وانتشار مصطلح "الاحزاب الاسلامية" الجديد. ومع ان المغرب ظل منذ استقلاله في العام 1956، وحتى منتصف التسعينات دولة سلطوية قمعية، الا أن الملك لم يقع قط تحت اغراء حظر الاحزاب السياسية او اعلان نظام حكم الحزب الواحد. ونتيجة لذلك التقليد العريق، فإن بعض الاحزاب السياسية العلمانية المغربية مستمرة في اظهار درجة من البناء والتنظيم، غير مألوفة في العالم العربي. وهذا لا يعني بالضرورة انها احزاب قوية ومزدهرة في الوقت الحاضر، او انها لا تشعر بتهديد المنافسة القاسية التي تواجهها من الاحزاب والحركات الاسلامية. ولكن، ومقارنة ببلدان اخرى في المنطقة، فغن الاحزاب السياسية العلمانية في المغرب تبرز كهيئات قائمة بالفعل.

يضاف الى ذلك، وجود اكثر من 24 حزبا سياسيا في المغرب في الوقت الحاضر. لكن معظمها ليست الا جماعات تلتف حول قائد ذي طموح سياسي. والاحزاب التي يمكن ان ينطبق عليها ـ مع بعض التحفظات ـ اسم "العلمانية" في المغرب، هي اقل من ذلك العدد بكثير. هناك حزبان ولدا في مرحلة النضال لانهاء الحماية الفرنسية ، وهما بالتحديد: حزب الاستقلال، وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية (USFB)،

(الذي سمي اساساً "الاتحاد الوطني للقوة الشعبية")، وهما الحزبان الملقبان بالحزبين الملكيين. كما ان هناك احزاب البربر التي تتداخل الى حد ما، مع الاحزاب الملكية الاخرى. ان اطلاق صفة "العلماني" على حزب الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية لا يثير اي مشكلة بسبب اسمه بالذات. اما في حالة حزب الاستقلال فإن مسالة الاسم أكثر تعقيدا، ذلك انه خلال فترة النضال من اجل الاستقلال كان حزب الاستقلال هو حزب العناصر المحافظة المتدينة في المجتمع المغربي، وقد نشأ على يد عالم دين، وضمن ثقافة شمولية. الا ان ذلك جاء قبل عدة عقود من قيام الحركات الاسلامية الحالية. وفي الطيف السياسي المعاصر، يقف حزب الاستقلال الى جانب حزب الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية بثبات، وليس الى جانب "حزب العدالة والتنمية". والواقع، ان الحزبين يمثلان معاً نواة الاحزاب التي تسمى "بالكتلة التابعة لمجموعة الاحزاب التي كانت يوما ما تشكل المعارضة. لكنهما الآن منحازان الى الملكية، ومعارضان لحزب العدالة والتنمية. وعدا عن حزبي الاستقلال، والاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية، فإن هناك ما يسمى بالاحزاب الملكية، والاحزاب البربرية التي تتداخل الى حد ما مع الاحزاب الملكية. وهذه الاحزاب الملكية بعيدة عن النضال من اجل العلمانية. فهي تروق للفئات المحافظة والتقليدية من سكان الارياف المتدينة، لكنها لا تنتظم تحت راية الاسلام السياسي. بل هي منظمات تقوم على اساس نفعي ومستفيدة من الامتيازات التي تحصل عليها، وهي ايضا معارضة للاحزاب الاسلامية. ولهذا، فإننا نصنفها احزاباً علمانية لأغراض البحث.

ان اهم احزاب المغرب العلمانية، هما الاستقلال، والاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية. وهما يشبهان حزب العدالة والتنمية،من حيث انهما حزبان سياسيان تقليديان لكل مهما مركز قيادة العاصمة، وشبكة هامة من المكاتب الفرعية. وبالفعل، فإن حزب الاستقلال يفاخر بأن له اكثر من الف فرع في البلاد. وهو رقم يقر الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية بأنه لا يمكنه ادراكه. ورغم ذلك فإن الكثير من المكاتب الفرعية ليس لها أداء فعال، وهي حقيقة يسلم بها مسؤولوا الحزبين. ومهما يكن من أمر، فإن لهذين الحزبين أطر بنيوية حقيقية قائمة بالفعل.

غير ان هذين الحزبين لا يشعران انهما قادران على منافسة الاحزاب الاسلامية. اما ردّ فعلهما فهو الاقتراب اكثر من الملكية، وهو موقف يهدد بإضعافهما اكثر خاصة امام المستائين من الوضع الراهن. فالحزبان يعتبران نفسيهما مع "الحكومة" لا مع "المعارضة"، وهما ينظران الى حزب العدالة والتنمية باعتباره حزباً معارضاً.

اما كيفية تحول حزب الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية، وحزب الاستقلال، من كونهما نواة احزاب المعارضة الى حزبين اقرب الى الحكومة، فهي حكاية تكشف الكثير عن القدرة السياسية للسلطة الملكية في المغرب، وعن المعضلة التي تواجهها الاحزاب العلمانية هذه الايام. لقد بدأ هذا التحول مع قرار الملك الحسن الثاني بالدعوة الى جعل الانتخابات العامة في عام 1997، انتخابات تنافسية. بهذا اعطى الملك حيزا سياسيا اوسع للاحزاب القديمة لكي تنظم صفوفها، لكنه سمح في الوقت نفسه، وللمرة الاولى ، للحركات الاسلامية بان تدخل المعترك السياسي بصورة شرعية. ففي بداية الامر سيطر الاسلاميون على احد الاحزاب السياسية القائمة، وهو حزب "الحركة الشعبية الديمقراطية الدستورية" (MPDC)، لكنهم سرعان ما اسسوا حركة جديدة هي حزب العدالة والتنمية (PJD). وقد نال حزب الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية غالبية اصوات الناخبيين في انتخابات عام 1997، فعين الملك عبد الرحمن اليوسفي رئيس هذا الحزب رئيساً للوزراء. كما شارك حزب الاستقلال ايضاً في هذه الحكومة.

لقد شكل هذا الانتقال المعروف بالتناوب نقطة تحوّل تاريخية. حيث لم تجد أحزاب المعارضة نفسها خارج الحكم فحسب، بل جوبهت كعدو، وقادة هذه الاحزاب واعضاؤها باتوا عرضة للاعتقال. في نظام التناوب دخل الحزبان المذكوران من صقيع الخارج الى دفء الحكم. نظر الحزبان الى هذا التغيير على اساس انه دائم، فلم يتوقعا العودة من جديد الى هوامش الشرعية، او الى عودة ملاحقتهما باعتبارهما خطراً يهدد السلطة، والاسوأ من ذلك انهم لم يعودوا قادرين على تصوّر عودة حزبيهما الى المعارضة من جديد وذلك في أفضل الاحوال. مثل هذا الوضع قد يبدو غريباً في الديمقراطيات المعترف بها، حيث يعتبر الوجود داخل السلطة او خارجها، امراً مؤقتاً لا يتوقع له الدوام الا عبر العديد من الدورات الانتخابية. لكن بالنسبة لبلد شهد تناوباً واحداً فقط، خلال نصف قرن من بعد الاستقلال، فغن فكرة بقاء حزب في الحكومة بشكل دائم، لا تثير استغرابا.

إن اصرار حزب الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية، وحزب الاستقلال على استمرارهما في السلطة، يعكس ايضاً خوف الحزبين من النمو المتعاظم لنفوذ حزب العدالة والتنمية، وحتى من نمو الحزب الاسلامي الآخر الأكثر شعبية، وهو حزب العدل والاحسان. وحزبا الموالاة المشار اليهما سالفاً لا يثقان كل الثقة في قدرتهما على المنافسة. فهما حزبان هرمان، وانجازاتهما الأساسية التي وفرت لهما الشرعية والاحترام، وهي مشاركتهما في النضال من أجل الاستقلال، وقد اصبح حدثاً طواه الماضي منذ أمد بعيد. أما انجازاتهم في الحكومة فهي ليست عظيمة الشأن. فمن جهة، تظهر نجاحاتهما محدودة لأن النظام الملكي قد نسب لنفسه كل التطورات السياسية الإيجابية على مدى السنوات العشر الماضية، ومن جهة أخرى، لم يظهر هذان الحزبان الكثير من الحيوية، ولم يقدما او يتابعا تنفيذ برنامج اصلاح حيوي، كما يعترف بذلك بعض اعضائهما. لذلك، فإن الالتصاق بالنظام الملكي تحت هذه الظروف كان سياسة حذرة. وبالفعل، فإن ثمة محاولات لدمج حزب العدالة والتنمية أيضاً في الميدان السياسي، بينما تقف الأحزاب العلمانية والكثير من المنظمات غير الحكومية موقفاً متردداً من هذه المساعي.

ونتيجة لذلك، تجد الاحزاب العلمانية نفسها عالقة في وسط هذا الوضع. لقد أصبحت أحزاب المرحلة الراهنة، التي تقف تماماً في صف القصر الملكي ولا تجرؤ على تجاوز ارادة الملك. مع ان هذين الحزبين يجادلان بضرورة توسيع سلطة البرلمان، وانه يجب الحد من امتيازات السلطة التنفيذية، الا انهما يتوقعان أن تأتي هذه الإصلاحات من جانب الملك. وفي ظل شح الانجازات، طيلة عشر سنوات في السلطة، بات هذان الحزبان في حاجة الى حماية القصر لهما في مواجهة القوى الاسلامية الصاعدة. وهكذا، عندما وجدت الاحزاب العلمانية نفسها مضطرة الى القتال على جبهتين، قررت اعفاء نفسها من الصراع على إحداهما، وذلك بالإنضمام الى الملك.