منذ سنة ونصف السنة صدر في هذا المكان بالذات وتحت عنوان: «يا حكماءَ العرب لا «تتدخلوا» في لبنان»! مقال تحليلي حول الوضع في لبنان ورد فيه ما يلي:

«في الحوار الشامل الذي أجراه الأستاذ غسان شربل مع الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله العديد من المحطات التي يمكن التوقف عندها، خصوصاً في هذا التوقيت من الاحتقان وتضخم الورم الوطني القابض على الوضع اللبناني، وفي واحدة من هذه المحطات اللافتة لسيد المقاومة... «كلنا مسجونون في هذا البلد، أنا مسجون في حارة حريك ووليد جنبلاط مسجون في المختارة، والعماد عون في الرابيه، ونبيه بري يزور بعض الدول لكنه محتاط وحذر، وسعد الحريري مهجر من البلد بشكل أو بآخر ومن المصلحة الوطنية أن يكون موجوداً في بيروت لكنني لا أستطيع تحمل مسؤولية توجيه نداء إليه للعودة... والشخص الوحيد الذي يملك حرية الحركة ويتجول في لبنان ذهاباً وإياباً وبكل ارتياح هو السفير الأميركي».

والمحطة الأخرى البارزة في الحوار الدعوة التي أطلقها الأمين العام لـ «حزب الله» إلى حكماء العرب للتدخل وبذل المساعي الحميدة لجمع الشركاء في الوطن بعد المحاولات الكثيرة التي بذلت لإيجاد صيغة توافقية تعيد إلى الموقف اللبناني بعضاً من الصفاء والاستقرار.

وتعقيباً على ما سبق بالقول... «مع التقدير العالي لصاحب هذه الصرخة بالإضافة إلى احترام سائر المرجعيات العربية على اختلافها ليسمح لنا بتوجيه نداء معاكس الا وهو... «يا حكماءَ العرب نرجوكم عدم التدخل في الشأن اللبناني» («الحياة» 22 كانون الثاني «يناير2006»).

ولم تكن الغاية من استخدام هذا التعبير إبعاد لبنان عن بقية أفراد الأسرة العربية بقدر ما كان دعوة ملحة للمسؤولين اللبنانيين كي يعتادوا على حل مشاكلهم بأنفسهم ووقف هذه الاتكالية والاتكاء على الآخرين كلما واجه الوطن أزمة أو محنة وهو عبر رجالاته لم يصدقوا انتهاءَ عهد الوصاية السورية لكي يتمتعوا بالحكم الذاتي، فإذا بهم يواجهون الفشل في الحفاظ على الصيغة اللبنانية القابلة للحياة. وأصبحت عادة متأصلة الاستعانة بالخارج لتحقيق المصالحات بين الزعماء وصناع القرار.

ومناسبة استحضار هذه الصور ما تشهده الساحة اللبنانية من أحداث تنطبق عليها صفة المصيرية، ومع وجود الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى وعدد من وزراء الخارجية العرب وقد عادوا بخيبة أمل.

وفي العادة أن «تعريب» الحلول للأزمات اللبنانية يسبق عملية «التدويل»، لكن هذه المرة حدث العكس وواجه الوفد في جملة ما واجه الاختلاف بين الموالاة والمعارضة على ترتيب الأولويات وأيها يجب أن تسبق الاخرى؟ حكومة وحدة وطنية؟ أم برنامج عمل يتم التوافق عليه قبل انضمام الجميع إلى هذه الحكومة، وكان رد عمرو موسى بالحديث عن حلول متزامنة لأكثر من مشكلة في وقت واحد. ولكن عندما صارحه السيد سعد الحريري بالتساؤل عما إذا كان تأليف مثل هذه الحكومة يمنع القتل وعمليات الاغتيال لم يكن من مجال للخوض في هذه النقطة بالذات على أهميتها الفائقة، مشدداً على أن تحسين العلاقات اللبنانية - السورية يمكن أن ينعكس بصورة إيجابية على «النواحي الأخرى»، متحاشياً الرد بصورة مباشرة على السؤال والقول بأن لا حل لمشكلة الداخل اللبناني إلا بالمصالحات الإقليمية المعطوفة على الرعايات الدولية.

عندما عصف اعصار «تسونامي» في مناطق جنوب شرقي آسيا وأدى إلى ما أدى إليه من كوارث لا تزال آثارها ونتائجها ماثلة للعيان، سارع الخبراء إلى التطمين ان منطقة الشرق الأوسط هي بمنأى عن هذا النوع من الاعاصير. لكن ما يحدث الآن في المنطقة وتحديداً في مثلث الاحزان: لبنان، فلسطين، العراق هو اعصار «تسونامي» أشد هولاً وخطورة من الذي حدث. وفي ثورة الطبيعة حيث لا مجال لاتخاذ الإجراءات والتدابير تحاشياً للعواقب، فإن الثورة المدمرة المشتعلة من صنع البشر تقرب من الزلازل والبراكين في أخطار مزدوجة تليها الهزات الارتدادية التي تكون في كثير من الأحيان أكثر دماراً من الزلزال الاساس.

ويقول خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي زار اسبانيا وفرنسا لينتقل بعدها إلى مصر، في تعليقه على مسار الأحداث: «ان مخاوفي شبيهة بمخاوف كل الناس والعقلاء من أن يسبب تواصل هذه النزاعات تفككاً لا يقتصر على المنطقة بل تكون له أبعاد عالمية». ويضيف: «ان أي برنامج نووي في المنطقة سيكون عبئاً عليها وانني مقتنع بأن العالم سيكون أفضل من دونه».

والعاهل السعودي في قوله هذا يستشعر الأخطار الداهمة والمحدقة بالمنطقة، وباستخدامه كلمة «تفكك» فهو يقصد الإشارة بوضوح إلى مخاطر الشرذمة والتباعد التي ستخلفها الأزمات القائمة، وكل ما هو في طور «التكوين» والتخطيط لدول المنطقة.

ان تقويم ما حدث خلال الأيام القليلة الماضية يحتاج إلى مكان يتخطى حدود ومساحة هذه الصفحة، لذا وجب الاكتفاء بالعناوين الرئيسية.

إنها المنازلة الأميركية - الإيرانية التي بدأت فعلياً والشواهد والقرائن على ذلك واضحة وجلية. والانقلاب الذي قادته حركة «حماس» في غزة وكل ما رافق ذلك من مشاهد مخزية يندى لها الجبين، يمثل نقطة تحول بارزة وشديدة الخطورة سواءً على صعيد «الدويلة» الصغيرة، ام بانعكاساتها على صعيد الشعب الفلسطيني وقضيته ومستقبل هذا الشعب.

وفي الوقت الذي تذكر فيه واشنطن بتمسك الرئيس جورج دبليو بوش بالعمل على قيام دولتين فلسطينية وإسرائيلية تعيشان جنباً إلى جنب بسلام، هل أن البديل قيام «دولة غزة» و «دولة رام الله»؟ الأولى لـ «فلسطينيي حماس» والثانية لـ «فلسطينيي عباس»؟

في التاريخ تجارب كثيرة من نوع الثورة التي تأكل أبناءَها. لكن عناصر «حماس» الأشاوس قلبوا كل مقاييس الثورات، فمع قيام الحركة «الانفصالية» تحول القول: ان الثورة الفلسطينية أكلت أجدادها وآباءَها وأبناءَها وقد يبلغ العار حتى زمن الأحفاد.

هذا هو نتاج العربدة النضالية. وحدث ما حدث والصراع على السلطة في ظل الاحتلال فكيف سيكون عليه الحال عند بلوغ الحلم مرحلة الحقيقة مع قيام الدولة الفلسطينية العتيدة؟ وهل يمكن أن يصل الأمر حد القول إن الاحتلال الإسرائيلي على همجيته المعروفة في تعامله مع الشعب الفلسطيني يمكن ان يكون أكثر رأفة من تعامل رفاق السلاح - سابقاً - تجاه بعضهم بعضاً!؟

وخلال جلسة مجلس الوزراء السعودي الأخيرة التي انعقدت برئاسة نائب خادم الحرمين الأمير سلطان بن عبدالعزيز اضطر لتذكير الفلسطينيين بأن «يتقوا الله في ما تعاهدوا عليه أمام الكعبة المشرفة وما أقسموا عليه بأن يتحدوا ولا يتقاتلوا».

وعقب لقاءَ مكة المكرمة التاريخي تم التفاهم على تأليف حكومة الوحدة الوطنية، أهكذا يكون الالتزام بالعهود والمواثيق وفي أطهر بقعة من بقاع الأرض؟ لقد نقضوا كل الوعود والعهود وجرى الحنث بالقسم المعظم.

وفي سياق وضع الأمور في إطارها الطبيعي وفي واحدة من حلقات المنازلة بين التوجهات الأميركية، وبين الطموحات الإيرانية سقطت غزة كهدف لصالح التمدد الإيراني في المنطقة.

وفي حلقات الانفصال بين غزة والضفة الغربية ظهر العديد من الهواجس لدى دول الجوار وتحديداً مصر التي «عبرت بوضوح عن ان ما جرى في غزة يشكل أمراً في غاية الخطورة على الأمن القومي المصري»، ومن الطبيعي أن تعيد إسرائيل النظر في أسلوب تعاطيها مع «دويلة» على حدودها تحكمها أصوليات ما ان حملتها الأكثرية الشعبية إلى السلطة حتى أفسد رجالاتها وجرت معاقبة الشعب الفلسطيني بشكل جماعي بسبب الحصار المفروض.

وهذا يردنا إلى التصريح الشهير الذي أدلى به المرشد الأعلى للثورة الإيرانية السيد علي خامنئي، قبل حوالي الشهرين والذي وجه فيه «دعوة عامة لمشاهدة هزيمة الولايات المتحدة على الساحة اللبنانية».

وفي طلائع رصد تداعيات انقلاب غزة ينعقد في شرم الشيخ غداً الاثنين لقاء رباعي يضم الرئيس حسني مبارك والملك عبدالله الثاني، ورأس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ورئيس وزراء إسرائيل إيهود اولمرت بعد عودته «المظفرة» من واشنطن ومحادثاته «الناجحة» مع الحليف الاستراتيجي الأكبر جورج دبليو بوش الذي اقتنع بوجهة نظر اولمرت أن «معاقبة حماس على ما فعلته في غزة تدخل ضمن الحروب الاستباقية» على الإرهاب، تماماً كما نجح ارييل شارون في تسويق فكرة محاربة الإرهاب في المنطقة بعد أحداث 11 ايلول (سبتمبر).

ويجب بعد اليوم الأخذ في الحسبان الجنرال العائد بالثأر والإحباط إيهود باراك إلى وزارة الدفاع. وما إذا كان يفكر بحماقة جديدة ضد لبنان الذي أرغمه على الهزيمة المنكرة العام الفين؟

ولبنان عبر خوضه المعارك الطاحنة في مخيم نهر البارد ضد تنظيم «فتح الإسلام»، يكون دخل فعلياً الحرب التي لا هوادة فيها مع الإرهاب الإقليمي وحتى الدولي منه. ويشهد للجيش اللبناني أنه أبلى البلاءَ الحسن في خوض القتال الشرس لفترة تزيد عن الشهر رغم أنه دفع ثمناً غالياً من حياة ضباطه وجنوده، فاستحق تقدير جميع اللبنانيين في حالة من الحالات النادرة التي يجتمع عليها مختلف ألوان الطيف اللبناني. وعندما يكشف عن تفاصيل معارك نهر البارد سوف تتضح الامكانات المتواضعة التي كانت بتصرف الجيش الأمر الذي يدحض كل الوعود والمزاعم الأميركية بتسليح هذا الجيش، واستناداً إلى نائب رئيس الحكومة وزير الدفاع إلياس المّر فان ما ذكر عن طائرات الجسر الجوي الأميركي إلى لبنان لم يكن سوى كمية من الذخائر والأسلحة الصغيرة التي دفع ثمنها كاملاً.

إن ما جرى في مخيم نهر البارد يجب أن يفتح عيون السلطات اللبنانية تحسباً لمفاجآت من النوع الثقيل على غرار «جهاد» تنظيم الإسلام الذي كان أنصاره بقيادة شاكر العبسي يستعدون لإعلان «الإمارة الإسلامية» في الشمال اللبناني وعاصمتها طرابلس.

أما الضلع الآخر من مثلث الأحزان، العراق فحدث ولا حرج. واستناداً إلى معلومات موثوق من مصدرها فإن واشنطن ضاقت ذرعاً بالخسائر التي تمنى بها بشكل يومي وهي وجهت انذاراً إلى رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بضرورة إنجاز المصالحات السياسية والوطنية في مهلة لا تتعدى 45 يوماً وإلا فستعمد إلى «إقالته».

وفي آخر تقدير للجنرال ديفيد بيترايوس قائد القوات الأميركية في العراق فإن الوضع يحتاج إلى ما لا يقل عن عشر سنوات لضبط الأوضاع المنهارة.

إذاً المنازلة الأميركية - الإيرانية على أشدها، وتحت هذا العنوان سوف يندرج الكثير من التطورات تحت شعار رغبة الأصوليات المتطرفة في بسط سيطرتها أينما أمكنها ذلك. ومع كل هذا التصعيد الخطير ما زالت الاتصالات جارية لعقد المزيد من اللقاءَات بين الولايات المتحدة وإيران، وربما كان على لبنان أن يضيف إلى لائحة متاعبه الوطنية والسياسية: نتائج المساعي الهادفة إلى تحقيق فض اشتباك في المصالح بين سورية وإيران، وإذا ما حدث هذا الأمر سيدفع لبنان الثمن وإذا لم يحدث سيتابع دفع الاثمان الباهظة من أمنه واستقراره وحتى من صيغة العيش المشترك فيه والتركيبة الوطنية التي عاش عليها منذ الاستقلال الأول العام 1943 وهي الآن في الميزان.

هذا ما يحدث في لبنان والمنطقة عندما يعربد النضال والمناضلون ويوزعون الحلوى في «مهرجان» اقتتال بعضهم البعض.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)