إن الافتراض الأولي لمعنى الثقافة يتمحور حول الكيفية التي تعيش بها الثقافات المختلفة وهذه الكيفية لا تنحصر فقط باللباس والزخرفة وأساليب الحياة
وإنما بالنظرة الاعتبارية للعالم هذه النظرة بمجمل ما تشتمل عليه من أفكار ومعتقدات وسياسات هي من تصنف الشعوب في هويات ومنازل وهذا ما لا يستغربه أحد في اصطلاح الشرق والغرب ، وعالم متحضر وعالم ثالث وليس افتتان الباحثين في ثقافة الآخر ومعرفتها أو حتى التنقيب عنها إلا طريقة جادة في تثبيت مقاييس هذه الهوية وامتدادها نحو المكان والإنسان على اعتبار أن هذه المعرفة وسيلة للتطور وليس المفاخرة--- فهناك فاصل واضح المعالم بين الثقافة المحلية (البيئة ) والثقافة العليا ذلك أن الثقافة المحلية طريقة للتعرف على الحياة بمفهومها البيئي الخاص بينما تنظر الثقافة العليا نحو العالم كله وبشمولية . بل وتكرس نفسها لدراسة هذه الثقافات على شكل مقاربات ومزاوجة تنتهي بمعرفة إشارات التطور في كل ثقافة وحتى قدرة وطاقة الفرد فيها بالنسبة لعلاقته مع البيئة وهذه النظرة أورثت تقيماً تراتيبياً للعالم بما يشبه رحلة في قطار ( مقدمة مؤخرة ــ ممتاز رديء ــ كبير صغير ــ متخلف متحضر ــ نامي ــ متطور )

وهذا ما مد المشاريع الاستعمارية بالأحقية والظهور بمظهر طبيعي أمام شعوبها فبدت مهتمة بصناعة الآخر ورفد الثقافات المتأخرة بالأفكار التحررية الجديدة ــ
عندما ننظر إلى المثقف السوري من خلال هذا التمهيد لا يسعنا التفكير إلا بهذا الهامش ما بين الثقافة المحلية والثقافة العليا ومدى اشتغاله على تقليص أو تمديد مساحة هذا الهامش ــ هناك اتفاق على تسمية المثقفين السوريين حصراً بالنخبة لكن عند النظر إلى هذا المصطلح (النخبة)
من منظار الثقافة بشقيها المذكورين سابقاً نتساءل( نخبة لأي شيء_ أو نخبة من ) فهذا المصطلح يفترض وجود قاعدة إختصاصية لها نخبتها مثلاً أن هناك شريحة واسعة من المثقفين وبالمقابل هذه الشريحة لها نخبتها يعني على طريقة "شيخ الكار " فهناك الكثير من النحاسين من (صناع )و( معلمية ) لكن هناك شيخ الكار الذي يحافظ على هذه الحرفة من الضياع ويصوغ قوانين بسيطة يتحكم إليها كل من يعمل بهذه الحرفة .

وهذا ما يقودنا إلى تساؤل آخر من هو المثقف السوري هل هو الفنان أم السياسي أم الأديب أم أن مصطلح النخبة نطلقه على خلاصة المجتمع أي على رجالات هذه المسارات وبذلك نعود إلى نفس التصنيف القديم نخبة وعامة نبلاء وفقراء وخصوصاً أن الأخيرين يحتاجون وقتاً طويلاً جداً للوثوق وإصغاء السمع لهذه النخبة على اختلاف مساراتها على الرغم من ضآلة الأمل في قدرتها على إحداث أي تغيير وهذا ليس تعميماً على قدرة الإبداع في التأثير فشيخ الكار الأدب الروسي الناقد (بينلسكي )قد غير توجه الرواية الروسية تماماً قبل ثورة الإصلاح عندما وصف الأدب السابق لها بالأدب الطائفي الذي ينظر إلى الحياة الروسية من فوق ودعا إلى ما يسمى بمعرفة البيئة الروسية .

دعونا نعترف أن المشكلة الحقيقية في صعوبة تحديد موقع المثقف السوري على الخارطة الإجتماعية هو تغيبه المستمر عن كل فعاليات الصراع وتجاهله الملحوظ لتنمط الإنسان السوري وتليفه في الحياة اليومية لذلك يبدو المثقفون السوريون وكأنهم طائفة لها حياتها الإجتماعية الخاصة وتعيش كينونة جمعية محضة من التأثير والتأثر وابتعاده عن تناول البيئة كمشروع خارج هيكل التراث لإعادة تركيب المشهد الثقافي السوري المتنازع عليه من قبل الفكر الإسلامي الأصولي الذي يعيد إنتاج نفسه بقوة داخل الثقافة المحلية الهشة وبين بيروقراطية التقاليد المعززة للذات من خلال ممارستها بدلالة تاريخية أشبه بالبكاء على الأطلال
إذاً فا المشهد الثقافي عموماً يدل على تشكيل جماعي متكامل شكلاً متنازع ضمناً وهذا التنازع هو الذي يولد الاختلاف وبالاختلاف تتحقق الهوية الثقافية وبصيغة نوعية فالثقافة لا يمكن أن توجد خارج المجتمع كما أنها ليست للثقافة على غرار مصطلح الفن للفن .

غياب (شيخ الكار) عن حرفة صناعة المجتمع أظهر ركوداً في المشهد الثقافي السوري لا حركة لا تنازع لا صدام وكأن هذا المجتمع مملكة في السماء تعيش بقوة القدر وسلطته وترتفع فوق جدل الحياة وصراعاتها
فلا عجب أن تسير السياسة الخارجية والداخلية على هواها دون أي مراقبة أو تفكير مواز ما دام شيخ الكار قد أغلق حانوته وعلا أدواته الصدأ والغبار وليس غريباً أن يقع الإبداع بكل مساراته في مطب الذاتية وأن يرتد على نفسه بولاء أكاديمي وتبقى دراسة ومقاربة الثقافات الأخرى نوعاً من العولمة الزائفة المراد بها تدمير هويتنا الثقافية في ظل نظرية المؤامرة