أصبحت الطريق أكثر سلاسة بين دمشق ومدينة القنيطرة في محاذاة الأسلاك الشائكة التي تفصل المدينة عن القسم المحتل من هضبة الجولان السورية. وصارت المسافة أسهل وأقصر كي يذهب السوريون دورياً لمعاينة هذه النقطة من أرضهم وإحيائها في «الذاكرة الجماعية».

لا يحصل هذا لأن الطريق السريعة الممتدة نحو 60 كيلومتراً باتت معبدة للسيارات المتجهة جنوباً فحسب، بل لأن الكثير من نقاط التفتيش التابعة للسلطات السورية والقوات الدولية لمراقبة فك الاشتباك (اندوف) أزيلت بين مدينة سعسع والقنيطرة.

كان على كل سوري من غير أبناء هذه المنطقة يريد الذهاب الى الجولان، ان يحصل على الكثير من الأذونات الرسمية وأن يمر عبر نقاط تفتيش عدة. الاستثناء الوحيد كان يوم 17 نيسان (ابريل) الذي يصادف ذكرى «عيد الجلاء» (الاستقلال)، حيث يسمح لجميع السوريين ومن دون أذونات بزيارة هذه المناطق، فكانت مناسبة لرؤية آلاف العائلات تفترش الأرض المحيطة بالبيوت المدمرة. وباعتبار ان اسرائيل دمرت القنيطرة، حرصت الحكومة السورية على تركها «شاهداً على الوحشية الصهيونية»، وصارت محجاً للزوار الرسميين والناس لمشاهدة كنيستين وجامعين ومستشفى ومئات البيوت وقد سويت بالأرض.

لكن الأمور تغيرت الآن، ليس هناك سوى نقطتي تفتيش نصبتا على بوابة المدينة التي كان الاسرائيليون دمروها قبل انسحابهم منها سنة 1974 بعد توصل سورية واسرائيل الى اتفاق «فك الاشتباك» بوساطة وزير الخارجية الاميركي الأسبق هنري كيسنجر بعد حرب العام 1973. وتضمن اتفاق فك الاشتباك اقامة منطقة عازلة في الجولان من شماله الى جنوبه ومنطقة مخففة من السلاح تمتد بعد «العازلة»، على أن يقوم مراقبو الأمم المتحدة بالتدقيق دورياً بالتزام الطرفين بنود الاتفاق الذي أبرم في جنيف.

الآن، هناك طريق واسعة، تربط العاصمة بالأرض السليبة. بنايات شاهقة وقصور شيّدت أيضاً على جانبي الطريق. وتطل أيضاً من خلف الأشجار، قمم بعض القصور التي جهزت بكل وسائل الترفيه. انتشرت أيضاً مطاعم صغيرة لبيع المشاوي والشاورما والخضراوات للعائلات التي تتجه لزيارة بقايا بيوتها المدمّرة في القنيطرة.

هذا التغيير يعود الى نهاية سنة 2004، عندما قررت دمشق اعادة إعمار القنيطرة والقرى المجاورة وأجرت احصاءات لعدد النازحين منها، وكان مسؤول في محافظة القنيطرة قال لـ «الحياة» إن أربع لجان مركزية تشكلت وهي «لجنة تحديد موقع المدينة» و «لجنة السكان» و «لجنة تقدير الأضرار» و «لجنة التوثيق»، اضافة الى تسع لجان فرعية تشكلت بحسب الأحياء التي كانت قائمة في المدينة. وهذه اللجان هي «العروبة» و «الشمالي» و «النهضة» و «الاستقلال» و»الجمهورية» و «النصر» و «الشهداء» و «الجلاء» و «التقدم».

ويبلغ عدد النازحين 410 آلاف شخص موزعين على المحافظات السورية بينهم 30 ألفاً في «مخيم الوافدين» قرب العاصمة الذي كان شهد اعمال شغب بعد اعلان نتائج الانتخابات البرلمانية الاخيرة، اضافة الى نحو 60 ألفاً في القرى التي أعيد بناؤها في القسم المحرر بعد حربي 1967 و1973. ويبلغ عدد اهالي القنيطرة 150 ألفاً. ولايزال يعيش في القنيطرة المدمرة نحو 35 شخصا فقط.

وتبلغ مساحة الجولان السوري 1860 كيلومتراً مربعا، لا يزال 1260 كيلومتراً منها تحت الاحتلال حيث يعيش نحو 20 ألف سوري في خمس قرى أكبرها «مجدل شمس» ذات الخمسة آلاف نسمة، مقابل نحو 20 ألف مستوطن اسرائيلي يعيشون في اكثر من أربعين مستوطنة أكبرها «كيتسرين» التي بنيت على انقاض بلدة «قصرين» بعد احتلال العام 1967.

للقنيطرة أهمية استراتيجية، ذلك انها تعتبر نقطة تلاقٍ بين الحدود الدولية المجاورة، فهي تبعد عن دمشق 67 كيلومتراً وعن الأردن 60 كيلومتراً وعن جسر بنات يعقوب الفلسطيني 30 كيلومتراً وعن الحدود اللبنانية نحو 20 كيلومتراً. كما ان الجولان يضم أعلى نقطة في سورية وهي قمة حرمون التي ترتفع نحو 2814 متراً وأخفض نقطة وهي تلك الواقعة قرب بحيرة طبرية على انخفاض 212 متراً تحت سطح البحر ما يجعل منه منطقة سياحية مهمة ومصدراً مهماً للمياه، إضافة الى البعد الديني ذلك ان بولس الرسول مر بالقنيطرة خلال رحلته من القدس الى دمشق، الأمر الذي دفع البابا الراحل يوحنا بولس الثاني الى زيارة كنيسة الروم الارثوذكس خلال زيارته سورية في أيار (مايو) 2001.

وعلى رغم ان قرار اعادة الحياة الى القنيطرة يعود الى قبل ثلاث سنوات، فإن الحرب الأخيرة بين اسرائيل و»حزب الله» زادت في القناعة السورية بضرورة تعزيز الجولان في الخطاب الرسمي. فلم يخل خلال هذه الفترة خطاب أي مسؤول سوري من ذكر للجولان وحتمية عودته بـ «التفاوض أو بالخيار الآخر، ولأن السلام هو الخيار الاستراتيجي». وفي هذا السياق، عقد مؤتمر إعلامي كبير في القنيطرة في كانون الأول (ديسمبر) الماضي. وصدرت جريدة باسم «الجولان». كما باتت قضية الأسرى السوريين في السجون الاسرائيلية ملحة في المفاوضات بين المسؤولين السوريين ونظرائهم الغربيين. وعندما يذكر أي مسؤول غربي موضوع الجندي الاسرائيلي جلعاد شاليت يثير الجانب السوري «قضية أسرانا». كما تضم حكومة المهندس محمد ناجي عطري وزيراً من الجولان هو وزير الداخلية اللواء بسام عبد المجيد.

ويترجم ذلك أيضاً برفع شعارات وعبارات للمسؤولين السوريين. وبينما لا تزال عبارة الرئيس الراحل حافظ الأسد من «أننا سنجعل الجولان وسط سورية» مكتوبة على جدار غرفة التفتيش السورية، فقد كتبت عبارة الرئيس بشار الأسد القائلة: «بالقياس الوطني، لا يجوز أن يكون هناك من هو أقوى منا» على جدران النقطة الأخيرة بالقرب من الأسلاك الشائكة في القنيطرة. وعلقت عبارات مشابهة على «مستشفى الجولان» المدمرة وقرب دور العبادة.

كان الهدف من زيارة الجولان، اجراء مقابلة مع قائد قوات «اندوف» والاطلاع على انعكاس الخطاب الرسمي على الأرض، ما تطلب الحصول على موافقة وزارة الإعلام ومرافقة أحد مسؤوليها. وما ان نتوجه من القنيطرة الى نقطة «خان ارنبة» والالتفاف يساراً الى معسكر نبع الفوار حيث قيادة «اندوف»، حتى يظهر حجم التغيرات على الحقول والأراضي. كانت هذه الأراضي مهملة في السنوات السابقة، لكن الآن السمة الاساسية هي الاخضرار. بائعون يضعون صناديق الفاكهة والخضروات، لعرضها على الزبائن. ويقول أحد ضباط «اندوف»: «اقيمت في السنة الماضية الكثير من المشاريع الزراعية لزرع العنب والحمص». وتصادف وجودنا، مع نشاط لافت في «جباتا الخشب» التي كان أهلها يحصدون القمح ويرفعون أكواماً كبيرة من السنابل اليابسة.

كما اقيمت بعض المشاريع الاستثمارية، وأكبرها «منتجع جبل الشيخ» الذي يتضمن أحدث وأفخر الالعاب والأطعمة الغربية والشرقية، اضافة الى مسابح ووسائل لهو. وفي هذه النقطة، الدفع ليس «كاش» بل بالبطاقات الممغنطة...

نبع الفوار... والرعاة

مجرد الدخول الى معسكر (اندوف) يعني الانتقال من عالم الى آخر. في الخارج هناك قرى وأناس ريفيون بلباسهم الشعبي وبيوتهم المبنية من الحجر البازلتي الأسود. في الداخل شيدت مدينة غربية بكل معنى الكلمة. فيها «بار» وملاعب تنس وكرة قدم ومسبح. شباب وبنات من أوروبا واليابان والهند. وفيها المطبخ النمسوي والخياط وسوق حرة وما يحتاجه الجنود كي يشعرون انهم «في الوطن». أما مكاتب القيادة فقد اقيمت على شكل بناء البنتاغون في واشنطن. وطبعاً بامكان الجنود قضاء عطلة نهاية الأسبوع في سورية أو في اسرائيل.

وتضم «القوات الدولية لفك الاشتباك»، التي يجدد لها كل ستة أشهر، 1167 جندياً. من النمسا (367 جندياً) وبولندا (358 جندياً) وسلوفاكيا (93 جندياً) واليابان (45 جندياً)، ينتشرون في 67 موقعاً ومعسكرين بينهما «معسكر الفوار» الذي يضم قيادة القوات الدولية. وكان جنود كراوتيون حلوا محل نحو 190 كندياً انسحبوا العام الماضي.

ويستعمل الجنود سيارات بيضاء وكل الوسائل للتأكيد على حياديتهم. ويقول أحد الضباط: «سياراتنا بيضاء وقبعاتنا زرقاء كي نُرى»، ملاحظاً ان الناس يتعاملون معهم باحترام «لأننا تدربنا في بلادنا على ان نكون ودودين وحازمين في ان واحد» مع الحرص على «الحيادية لأن هدفنا التأكد من تطبيق الاتفاق» لذلك فهم يطلقون على القسم المحتل «الفا» والقسم السوري»برافو». ويضيف: «انها تسمية حيادية. وحسب الأمم المتحدة فان المنطقة «الفا» هي محتلة من اسرائيل».

وفي قسم «برافو» المعروف بالمنطقة محدودة الانتشار وراء الاسلاك الشائكة، اقيمت بضع نقاط مراقبة احداها النقطة 37 قرب بلدة «جباتا الخشب». وإذ يؤكد ضباط «اندوف» التزام الطرفين اتفاق فك الاشتباك، يشيرون الى ان الاسرائيليين باتوا أكثر تشدداً بالتزام بنود الاتفاق في ما يتعلق بالرعاة، بعدما كان بامكان الرعاة والمزارعين تفقد محاصيلهم والتجول بحرية من دون الاعتراف بخط «الفا».

ويقول الضابط المسؤول عن النقطة 37: «ابلغنا الاسرائيليون انهم لا يريدون من الرعاة الاقتراب من الأسلاك الشائكة في جميع المناطق باستثناء المنطقة القريبة من بلدة الحرية باعتبار انها الاعمق بين الأسلاك الشائكة وخط «الفا». لكن في هذه النقطة لا يحق للمزارعين الاقتراب منها»، مشيراً الى ان المرة الوحيدة التي يدخل فيها عناصره الى الملاجئ خلال 33 سنة كانت في آب (اغسطس) الماضي خلال فترة الحرب بين اسرائيل و»حزب الله».

ويتحدث عناصر «اندوف» عن صعوبة التواصل مع الرعاة لأسباب لغوية، لذلك كتبوا ما يجب قوله باللغة العربية لاظهارها لأي شخص يخرق الاتفاق. ويقول النص: «إن تصرفكم هذا هو خرق للاتفاق الموقع في جنيف من قبل حكومتكم في 31 أيار 1974. انتم مطالبون بايقاف هذا الاجراء. لدينا الأوامر الصارمة من القيادة بعدم السماح لكم». لكن الاشكالية ان معظم الرعاة لا يجيد القراءة ومن أجادها لم يسمع باتفاق جنيف ومعناه، ما تطلب قدوم ضباط الارتباط لشرح الأمر. ويوضح الضابط الدولي ان المسألة أسهل بالنسبة الى مراقبة المنطقة العازلة حيث يظهر عناصره نصاً باللغة العربية في»برافو» وباللغة العبرية في «الفا» يتضمن:»انتبه من فضلك. أنت الآن تدخل المنطقة العازلة. يمنع دخول السيارات العسكرية والاشخاص باللباس العسكري، شاكرين تعاونكم».

بالتأكيد ليس هذا «العبء» الوحيد على عناصر «اندوف» باعتبار انهم باتوا مطالبين بالقيام بالكثير مما لم تنص عليه بنود الاتفاق. بين ذلك، تسهيل مرور 15 ألف طن من التفاح من القسم المحتل الى السوق السورية. ويوضح أحد الضباط النمسويين:»عندما تسلمنا الطلب، قال رئيس القوات الدولية السابق الجنرال بالا شارما إننا سنوافق على تسهيل المهمة إذا وافق الطرفان». لكن سرعان ما اكتشف خبراء العمليات في هذه القوات ان «ليست لنا مهمة سياسية. مهمتنا فقط الحفاظ على تطبيق اتفاق فك الاشتباك. لسنا قوات جمارك أو حدود لتسهيل عبور هذه البضاعة». لكن القائد الحالي لـ «اندوف» يقول إن هذا الأمر «ينسجم وروح الاتفاق» وان كان لم يأت ذكره نصاً.

كما تتعاون القوات الدولية مع «الصليب الأحمر» لتسهيل حصول نحو عشر حالات زواج سنوياً من فتيات سوريات بأقاربهن في القسم المحتل، ومرور نحو 300 طالب «جولاني» يدرسون في الجامعات السورية ونحو 300 من الشيوخ الدروز الذين يزورون اماكن مقدسة في الوطن الأم. كما سجل عبور، «غير مقصود»، لأكثر من شخص سوري الاسلاك الشائكة. وكان دور «اندوف» اجراء الاتصالات لإعادتهم الى بلدهم.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)