الوضع المتردي في لبنان والذي سيزداد تفاقماً خلال الأيام والشهور المقبلة، قبل المحكمة وخلال المحكمة، ولا يمكن أن نقول بعد المحكمة لأن المحكمة لن تنتهي أو لا يراد لها أن تنتهي، هو نتيجة حتمية لغياب الدور السوري الفاعل. البعض ممن يرى الأمور بعين الذاتية والمصالح الشخصية والعواطف السياسية قد يرى العكس، وأن كل ما يجري هو بتحريض أو تحريك سوري. أولئك البعض يبنون فرضياتهم وقناعاتهم على أساس أهمية الدور السوري في لبنان، وهم بذلك، بعلم أو بجهل، يؤكدون ما نذهب إليه ولكن حسب ما يريدونه أو يراد لهم.

لا أحد يشك في أهمية الدور السوري في لبنان، ونزيد أكثر من ذلك، أن الوجود اللبناني بأكمله يعتمد على سورية، هكذا كان وهكذا سيكون، والقائلون أو المجادلون بغير ذلك يهرفون بما لا يعرفون. لبنان قطعة من سورية جغرافياً وثقافياً واجتماعياً ومجتمعياً واقتصادياً واستراتيجياً وحتى سياسياً قبل الانتداب وخلال الانتداب وبعد الانتداب. حتى الدول الكبرى (فرنسا سابقاً والولايات المتحدة لاحقاً) تعلم علم اليقين أنه لا بد من الموافقة السورية على أي شأن ذي شأن في لبنان. كلنا يتذكر الزيارات المكوكية التي كان يقوم بها المبعوث الأميركي إلى دمشق للاستنارة برأي سورية فيمن يترأس ومن يدير دفة لبنان.

منذ الاحتلال الأميركي للعراق والشواهد تدل على أن سورية في أول قائمة الدول المستهدفة للوضع الجديد في الشرق الأوسط الجديد. أيديولوجية النظام الحاكم في سورية قبل بشار وبعد بشار، العلاقة مع روسيا، البقية الباقية من الاتحاد السوفياتي المتفكك، العداء مع إسرائيل، التشبث بالقومية العربية، العلاقة مع إيران العدو اللدود للولايات المتحدة وبالتالي إسرائيل أو العكس ظاهرياً على الأقل، العلاقة مع «حزب الله» رمز المقاومة المتشدد للصهيونية وإسرائيل والمذل لها أيضاً، استضافة رموز المقاومة الفلسطينية الذين انشقوا أو توقفوا عن الهرولة تجاه سراب السلام الإسرائيلي. كل تلك، وغيرها، عناصر تجعل الولايات المتحدة تجتهد في التخلص من سورية بأساليبها المعتادة: العزلة الدولية، محاربة النظام، تشجيع وتأليف وحياكة وحبك المؤامرات.

استطاعت الولايات المتحدة أن تنفذ جزءاً من مخطط الاستهداف لسورية عبر القرار 1559، والطعن في مشروعية التمديد للرئيس إميل لحود، والاستنكار الدائم للتدخل السوري في لبنان، واستصدار قرارات متلاحقة من مجلس الأمن آخرها قرار المحكمة الدولية تحت الفصل السابع. لكن العتب لا يقع على الولايات المتحدة التي تعرف تمام المعرفة أن حججها لا تستقيم مطلقاً في ظل ما تقوم به في العراق وفي سائر مناطق العالم من وجود واحتلال ودعم لأنظمة بطرق ملتوية وغير مشروعة، وتدخل سافر في شؤون الدول. بل إن العتب كل العتب يقع على بعض الأجنحة اللبنانية أو «الأفرقاء» اللبنانيين في تصديق الترويج الأميركي، ومعهم عدد من الدول العربية الفاعلة.

استطاعت سورية في المقابل أن تدرك واقع المخطط وأساليب التنفيذ الأميركي فأدارت الأزمة باقتدار وحكمة سياسية وحنكة ديبلوماسية في أمرين: الأول، استجابت لقرار الخروج من لبنان وهي تعلم علم اليقين أن لبنان لن يصمد أمام أي هبّة من رياح التغييرات السياسية التي تمر بالمنطقة. تدرك سورية جيداً أدق تفاصيل التركيبة اللبنانية اجتماعياً ومجتمعياً وثقافياً واقتصادياً وعقائدياً ومذهبياً وطائفياً، وبالتالي سياسياً، فقررت عدم التدخل بأي حال من الأحوال، لكي يدرك بعض المزايدين في أمر استقلال لبنان والمماحكين حول الوصاية السورية على لبنان أنهم يظنون أنهم يعرفون شيئاً لكن بالتأكيد غابت عنهم أشياء. الثاني، أن سورية تدرك فضلاً عن المماحكات الأميركية المعلنة، أن الولايات المتحدة في مأزق استراتيجي بالغ الصعوبة والتعقيد في المنطقة، بحيث لا يمكنها - أي الولايات المتحدة - سوى المساعدة الفاعلة لسورية.

النتيجة، أن سورية آثرت الصمت تجاه عدد من المواقف، عدم التدخل في الشأن اللبناني حتى لو كان - أي لبنان - يعبر تجاه الهاوية، العمل الدؤوب تجاه تحقيق مصالحها وبلوغ أهدافها الرئيسة داخلياً وخارجياً، الثبات على مواقفها المعلنة تجاه كثير من القضايا الاستراتيجية. بمعنى آخر، آثرت سورية الصمت واستعمال الوقت كعامل رئيس من عوامل النصر والتغلب على الفتنة/ الأزمة. ولذا، فإن ما يجري في لبنان اليوم هو نتيجة حتمية لغياب حكومة فاعلة قوية. من السهولة بمكان إلقاء التبعة على سورية في ما يجري في لبنان وما يجري في العراق وفلسطين. لكن المنطق يفترض أنه إذا بلغت بنا القناعة أن سورية لديها من قوة التأثير وغلبة الرأي وسعة النفوذ في تحريك الفصائل والمنشقين وتسليحهم وعمل هذه الفوضى «غير الخلاقة»، فإن ذلك يعني اعترافاً ضمنياً بأهمية الدور السوري، وبالتالي تقديمها في الرأي والمشورة ومقايضتها لو تطلَّب الأمر.

بقي لنا أن نشير إلى أن الجدل حول التدخل في شؤون الدول هو جدل غوغائي لا يستقيم مع منظومة العلاقات الدولية، خصوصاً العلاقة بين الدول الصغرى والكبرى، تماماً مثل جدلية مصطلح السيادة الذي تماحك به كثير من الدول الضعيفة عند رغبتها في الخروج على العرف الدولي. من ناحية ثانية، توجد على الخريطة الدولية دول أطلق عليها الرئيس الراحل شارل ديغول «غبار المستعمرات»، هذه الدول لا يمكنها العيش بمفردها من الناحية السياسية والاستراتيجية، بل لا بد لها من أن تدور في فلك جرم سياسي (بكسر الجيم أو ضمها لا يهم) لكي تتمكن من الحياة، هذه الحقيقة السياسية التاريخية تثبت في وضع مثل لبنان، كما تثبت في وضع بعض دول الخليج، وكثير من الجزيئيات السياسية في العالم.

نخلص إلى أن غياب الدور السوري التام وعدم التدخل من بعيد أو قريب في الشأن اللبناني هو السبب الكامن خلف الفوضى وغياب الأمن والاستقرار في لبنان. مظاهر الديموقراطية وتناغم الحياة وتباشير السعادة وتنامي الاقتصاد والثقافة وحتى الموسيقى والأغاني اللبنانية التي شكلت سمة لبنان، كانت تزدهر وتحيا بسبب الجهد السوري في تثبيت الأمن السياسي في لبنان، والأمن مثل الصحة لا يُشعر بأهميته ووجوده إلا في غيابه. يمكن لمن يظنون القدرة على إدارة دفة الحياة السياسية في لبنان من دون سورية أن يكابروا ويعاندوا ويستنجدوا بمن يشاؤون ولكن ذلك سيكون على حساب وحدة وأمن واستقرار لبنان. والحقيقة التي لا جدال فيها، أن الحقائق على الأرض ستظل تخضع لناموس الحياة، وستكون النتيجة ضياع شعب عانى كثيراً وسيظل ما لم يدرك عقلاؤه حقيقة التاريخ والجغرافيا.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)