حتى نهاية شهر آب (أغسطس) تبدو المنطقة مفتوحة على درجة من التصعيد الإعلامي الذي يتأرجح بين تسعير الهيبة من الحرب ونثر المشاريع والتقولات حول السلام.

لماذا نهاية ذلك الشهر؟ الإجابة تكمن في واشنطن حيث تنتهي معه المهلة الممنوحة لقاطرة ومقطورة الرئيس جورج بوش كي تستدير بزاوية واسعة بعيداً من مأزق العراق، فالقرار بالانسحاب من الاشتباك المباشر في العراق إلى ما بين أربع إلى خمس قواعد عسكرية، قد اتخذ وسيبدأ التطبيق في شهر آذار (مارس) المقبل 2008.

القرار متخذ ولكن يحتاج الى مناخ لتنفيذه. والإدارة الأميركية الحالية تعرف أنها تسير نحو مأزق أكثر إن تأخرت عملية الانسحاب.

إسرائيل في مأزق أيضاً: جُرت إلى حرب تنفيذاً لرغبة ديك تشيني والمحافظين الجدد لتهيئة الظروف أمام تقدم في أي مكان آخر غير العراق ما دام تحقيق إنجاز في الأخير ممتنعاً. انكشفت إسرائيل على أصعد عدة ولم تستطع أن تستمر في أي دور إقليمي كان يُفترض أنها تقوم به نيابة عن حلفائها لأن وجود الولايات المتحدة بنفسها في المنطقة قلل من كل الأدوار للقوى الإقليمية وعلى رأسها إسرائيل.

كما أن الحرب الأخيرة قد صدّعت بقوة المذهب العسكري الذي تقوم الدولة العبرية عليه، أهمه في شقيّ نقل الحرب إلى أرض (الآخرين) ومقايضة العمق (المدني) الإسرائيلي بالعمق المدني العربي، فلا إسرائيل استطاعت أن تنقل الحرب بالتقدم إلى الأرض التي عليها ميدان الحرب، ولا هي استطاعت أن تحمي عمقها؛ إذ للمرة الأولى منذ إقامة الدولة العبرية يُهجر نصفها إلى نصف غير آمن، كما أن إسرائيل تعرضت وللمرة الأولى إلى واقعة تعتبر تحولاً في العمليات العسكرية تاريخياً، إذ استطاعت قوة حرب عصابات أن تقاوم تقدم جيشها النظامي على مساحة استخدمت فيها إسرائيل كل القوات الممكن حشدها على الجبهتين الجنوبية الغربية والجنوبية، في وقت منعت دمشق - بطريقتها منذ 14 تموز (يوليو) أي تقدم إسرائيلي على الجبهة الجنوبية الشرقية (محور حاصبيا - راشيا الوادي)، عندما هددت بدخول الحرب بحسب ما كشف أخيراً نائب وزير الخارجية السوري فيصل مقداد وسط تداخلات دولية وصلت إلى حد أن نائب وزير الخارجية الروسي اتصل في ليلة واحدة بمقداد 18 مرة طالباً ضبط النفس وناقلاً تعهداً إسرائيلياً بعدم التقدم.

ترافق ذلك مع تزاحم المعلومات الإسرائيلية المنشورة علناً في وسائل الإعلام الإسرائيلية عن أن كل الصواريخ التي أُطلقت عليها كانت سورية وأن تدمير الميركافا كان بسلاح سوريّ أيضاً، وبرزت هذه التسريبات الإسرائيلية بوضوح أكبر بخاصة يوم 14 تموز عندما حط صاروخ على مركز تخزين أسلحة الدمار الشامل الإسرائيلية (قيل وقتها في الخبر الإسرائيلي إنه مركز حيوي واستراتيجي)، وهو ما لم ترد عليه دمشق إلا بصمت اللاعب المحترف مكتفية بمبدأ الغموض البناء، الذي أفاد في منع التحرش بها على المحور المذكور، إضافة إلى أن الغموض البناء الأخير نفسه الذي أعطى انطباعاً بأن إسرائيل لا تستطيع أن تخوض حرباً ضد دمشق من دون أن تكون مكلفة للغاية, وبالتالي وحتى نحو عشر سنوات مقبلة لن تستطيع تل أبيب أن تغامر بحرب أخرى، اقله، على محوري لبنان وسورية.

وكان اللافت أن جميع الأطراف توافقت بلغة سياسية عالية على أن تفسح في المجال أمام إسرائيل للانسحاب بعد ادعاء بأنها قامت بأربعة إنزالات جنوب الليطاني وسط تعتيم إعلامي كامل، حيث لا صورة لجندي إسرائيلي واحد التقطت في تلك المنطقة، وكان «حزب الله» يعلم كما يعلم الجميع أن الإنزالات لم تكن أكثر من أوهام إعلامية لصنع انتصار على الورق وتأمين الانسحاب من دون إعلام انكسار، وهكذا مرر الجميع باتفاق جنتل مان الكذبة على أساس قواعد السياسة التي تقول: «لا تكسر عدوك واكتفِ بهزيمته»، أو تلك التي تقول: «لا تحشر عدوك في الزاوية وتغلق عليه المنافذ، اترك له منفذاً وحيداً يخرج به... عبرك». على هذا الأساس فإن الانسحاب الأميركي (من الاشتباك المباشر في المنطقة) بات حقيقة في طور التجسد وإلى غير رجعة، إذ ستُستبدل في اللاوعي الجمعي الأميركي عقدة العراق بعقدة فييتنام، وسيكون واضحاً أن إسرائيل لا بد من أنها في مأزق جرّاء هذا الانسحاب من الاشتباك.

للخروج من هذا المأزق ليس لدى الإسرائيليين إلا طريقان: الحرب وهي ممتنعة للأسباب سابقة الذكر ولأن تجريب المُجرب هو من فعل العقل المُخرب.

الطريق الثاني هو: السلام وهو أيضاً إشكالي لأن إسرائيل غير قادرة اليوم على دفع فاتورة السلام، ولهذا فالحل هو تعويمها بـ (عملية سلام) تضع الأطراف على طاولة المفاوضات وتبرد المنطقة وتوجد مناخاً لاستراتيجية أميركية للخروج من المستنقع العراقي بأقل الأثمان كلفة، وخصوصاً على إسرائيل.

في الطريق إلى مؤتمر دولي للسلام يُراد له أن يُعقد مطلع الخريف يحاول المحافظون الجدد أن يكسبوا موقعاً متقدماً لنظريتهم ب نشر الفوضى العمياء - بحسب تعبير الرئيس السوري بشار الأسد - في لبنان وفلسطين والعراق حيث ضروب من الضياع السياسي واقتتالات وتفجيرات فيها خلط للأوراق حتى أمام الإدارة الأميركية التي استبعدت جلهم فيما لا تستطيع أن تستبعد رأسهم (تشيني) لأنه منتخب.

وهذه الفوضى كلها، على رغم أنها تقلق دمشق، قد تقدم – من دون أن يدري - إيديولوجيو المحافظين الجدد وأذرع مؤسساتهم الخفية بحماقة مطلق أيديولوجيا وكالمعتاد، مادة أوراق تفاوضية لدى سورية في اللحظة المناسبة، إذ ليس لدى الإدارة من خيار إلا الهروب من المستنقع العراقي، وهو لا يتحقق إلا عبر رزمة كاملة تكون دمشق في مركز أدوارها.

لا تبدو الحرب ممكنة أو ضرورة اليوم، لأنها لن تخدم ما هو سياسي، فلا توجد حرب للحرب، أما السلام فهو ممتنع لأن الإدارة الأميركية الحالية لم تتعلم لغة البراغماتية السياسية بعد، ولا تزال جرعة كبيرة من إيديولوجيا الغطرسة وحقنة الإنعاش الخلاصية والتبشيرية تكتنفها بعناد هي أول من دفع ثمنه.

تبدي دمشق باستمرار اهتماماً بالسلام لكنها تستعد أيضاً لمواجهة أي احتمال هروب إسرائيلي أو مداعبة! أميركية عسكرياً بهدف دفع الأوضاع السياسية إلى ما يضعف العاصمة السورية تفاوضياً. وليست التسريبات الإسرائيلية التي اكتفت دمشق بعدم نفيها، والتي تفيد بأن تسلحاً نوعياً في سلاحي الطيران والصواريخ قد بات جزءاً من الحياة اليومية لتحديث السلاح السوري، إلا بمثابة تجسيد سوري لقاعدتين الأولى تقول: «إذا أردت السلام فاستعد للحرب» والثانية تؤكد أن «ما تأخذه بالسلام من عدوك هو ما يُدرك أنك تستطيع أخذه بالحرب».

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)