تخضع الصراعات الدائرة الآن في كلٍّ من العراق ولبنان والأراضي الفلسطينية المحتلّة إلى توصيفات تتجاوز الحقيقة. فأصل المشاكل في هذه المواقع العربية الثلاثة المتأزّمة الآن، هو غياب التوافق الوطني على كيفيّة التعامل مع مسألة الوصاية الأجنبية أو حالة الاحتلال. فالاحتلال الأميركي للعراق أحدث فرزاً عراقياً بين مؤيّدين ومعارضين له، لكن في ظلٍّ تسميات طائفية وإثنية لكلٍّ من الجانبين على الرغم من تناقض الواقع مع هذه التسميات. فالمعيار المذهبي لا يجب أن يفرّق على أسس إثنية أو عرقية (أي بين عراقيين من أصول عربية أو كردية)، وبهذا يصحّ القول أنَّ مسلمين سنّة وشيعة هم في كلا الجانبين. كذلك الأمر عند اعتماد المعيار الإثني أو العرقي، حيث نجد عراقيين من أصول مختلفة مشاركين في الحكم أو معارضين له، كما أنّهم موزّعون أيضاً بين رافضين لأسلوب العنف المسلّح، أو مساهمين به في أشكال مختلفة.

فإذا كانت التصنيفات تعتمد المواقف السياسية كمعيار، فإنّ ذلك يُسقط عنها السمة الطائفية أو المذهبية أو العرقية، حيث نجد حلفاء هذا الطرف أو ذاك ينتمون لطوائف وجنسيات مختلفة إقليمياً ودولياً.
ينطبق هذا الأمر أيضاً على الحالة اللبنانية حيث هناك تشويه للصراع الدائر بين الحكومة والمعارضة. فلا الحكومة والمؤيّدون لها هم من طائفة واحدة فقط أو مذهب واحد، ولا المعارضة أيضاً هي طائفية أو مذهبية.
ولعلّ الصراع الحاصل في الأراضي الفلسطينية هو أبلغ دليل على خطأ ومخاطر التسميات الطائفية والمذهبية للأزمات المشتعلة في المنطقة. إذ ليس هناك أي بعد طائفي أو مذهبي في المواجهة القائمة بين حركتيْ "فتح" و"حماس"، ورغم ذلك فإنّ صراعهما هو جزء من المنظومة المتحكّمة الآن في كلّ صراعات المنطقة.
أيضاً، هي طبعاً ليست بصراعات بين "خير وشر" ولا بين "أيديولوجية الكراهية وحضارة الغرب" كما جاء ذلك في بعض أدبيات إدارة بوش، ولا هي أيضاً بين "شرق إسلامي" و"غرب صليبي"، كما يتكرر هذا الوصف لدى جماعات "القاعدة".. إنّها صراعات المواقف من الاحتلال وكيفية العلاقة مع نهج الوصاية الأجنبية. وعلى من يشكّك في هذه الخلاصة، أن يراجع مواقف الإدارة الأميركية تجاه الأزمات المشتعلة في المنطقة، وكيف أن هذه الإدارة تدعم حكومات وجماعات لها ألوان طائفية ومذهبية مختلفة لكنها تتفق جميعها على تبني الموقف الأميركي من الصراعات القائمة.

فالتشويه يحصل للصراعات الحقيقية في المنطقة ولمواصفات الأعداء والخصوم والأصدقاء، بحيث لم يعد واضحاً من هو العدوّ ومن هو الصديق، وفي أيِّ قضية أو أيّة معركة، ولصالح من؟!
نعم هناك صراع دولي/إقليمي على المنطقة العربية. نعم هناك محوران يتصارعان الآن في منطقة الشرق الشرق الأوسط: أميركا وإسرائيل من جهة ضدّ إيران وسوريا وحزب الله وحركة حماس. لكن ما الذي أوصل لبنان والمنطقة إلى هذا الحال من الصراع والتصعيد العسكري؟
المسؤول الأوّل عن ذلك هو الإدارة الأميركية الحالية التي وضعت العراق في قمّة أولوياتها منذ مطلع العام 2001، وقبل الأعمال الإرهابية في أميركا، وتجاهلت تماماً الصراع العربي/الإسرائيلي بعدما كانت الأولوّية هي لملفّات هذا الصراع في نهاية إدارة جورج بوش الأب عبر مؤتمر مدريد عام 1991، ثمّ في سنوات إدارة كلينتون حتى آخر شهر من وجوده في البيت الأبيض.

فلو ضغطت واشنطن على إسرائيل للانسحاب من الجولان والضفة والقدس وغزّة، ومن مزارع شبعا، هل كان للمنطقة أن تشهد ما تشهده الآن من تصعيد عسكري وتأزّم سياسي خطير؟!
لو تجاوبت الإدارة الأميركية بشكلٍ جدّيٍّ مع مبادرة السلام العربية التي أعلنتها قمّة بيروت عام 2002، وأقامت على أساسها مؤتمراً دولياً لاستكمال المفاوضات وتحقيق تسوية شاملة على كلّ الجبهات، وإعلان دولة فلسطينية، هل كان للأمور أن تنفجر انفجارها الحاصل اليوم؟!

لو تمّ ذلك، لما كانت هناك مشكلة تتعلّق بسلاح المقاومة في لبنان أو في فلسطين. فالحرب الأميركية على العراق والتخلّي الأميركي عن عملية السلام في الشرق الأوسط، هما مسؤولية الإدارة الأميركية الحالية، وهما السبب في انتعاش حركات المقاومة ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي، وكلّ مظاهر الغضب على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.
ثمّ لو جرى فعلاً تنفيذ قرارات مجلس الأمن 242 و338 وما قبلهما من قرارات تتعلّق بالمسألة الفلسطينية، هل كان لسوريا أن تكون في موقع متناقض مع السياسة الأميركية؟

المسؤول إذن عن ازدياد التأثير الإيراني في المشرق العربي هو السياسة الأميركية نفسها التي أطلقت العنان للرؤية الإسرائيلية القائمة على قهر الشعب الفلسطيني والاستمرار بالاحتلال والاستيطان في الضفّة والجولان، تماماً كما كانت الحرب الأميركية على العراق هي المسؤولة عن تصدّع وحدته وجعله ساحة صراع لنفوذ قوًى إقليمية عديدة.
إنّ غياب السلام الحقيقي يستحضر الحرب والعنف ويدفع بالخاضعين للاحتلال إلى ممارسة حقّ مقاومته.
وغياب الدور العربي الفاعل هو الذي يستحضر الأجنبي الدولي والإقليمي.
وغياب الوفاق الوطني الحقيقي في أيّ بلد عربي هو الذي يشجّع الآخرين على التدخّل وتحويل الوطن إلى ساحة صراعات ..

هناك الآن فعلاً صراع محاور إقليمية ودولية في المنطقة العربية، لكن على الرافضين له أن يصنعوا البديل الوطني الصالح والبديل العربي الأفضل، وليس تسهيل سياسة المحور الأميركي/الإسرائيلي ومشاريعه الطامحة للسيطرة على كلّ مقدّرات العرب، والعاملة على تفتيت المنطقة إلى دويلات متصارعة من خلال نظريات "الفوضى الخلاقة" أو "الديمقراطيات الفيدرالية" أو "الشرق الأوسط الجديد"!

في ضوء كلّ ذلك، لا يمكن تجاهل "رأي" إسرائيل لدى الإدارة الأميركية، إن لم نقل دورها الفاعل في تقرير مصائر العراق ولبنان وفلسطين، وهي الساحات الضاغطة الآن على زناد الفتن الداخلية.
فهل هناك من مصلحة إسرائيلية في إعادة إعمار العراق ليكون بلداً واحداً قوياً ديمقراطياً؟ وهل هناك من مصلحة إسرائيلية في إقامة دولة فلسطينية مستقلّة وفي توحّد الشعب الفلسطيني وقواه السياسية والعسكرية؟
وهل كان لإسرائيل مصلحة في استمرار وجود لبنان كدولة ديمقراطية مستقرّة قائمة على تعدّد طائفي، وكنموذج بديل لحالتها العنصرية الدينية، وهي الحالة اللبنانية التي عملت إسرائيل على تحطيمها أكثر من مرّة منذ منتصف السبعينات في القرن الماضي؟!
فمسكينٌ من يصدّق أنَّ إسرائيل ستدعم بناء مجتمعات ديمقراطية مستقرّة في الشرق الأوسط، حتى لو قامت جميعها بالتطبيع مع إسرائيل، إذ هل هناك من مصلحة إسرائيلية في إقامة "دول منافسة" لها تلغي خصوصيتها لدى أميركا والغرب؟

المؤسف الآن أنَّ بعض الأطراف العربية لا تجد مشكلةً في لقاءات علنية أو سرّية مع زعماء إسرائيليين، وأطراف عربية أخرى تدعو إسرائيل لمفاوضات ولقاءات معها، بينما تمتنع كل هذه الأطراف العربية عن اللقاء فيما بينها لحلِّ مشاكلها الثنائية وللتحرّك المشترك المطلوب منها لمعالجة أزمات عربية خطيرة متفجّرة!.
خاطرة على الهامش:
أمَّة "دار الحنان"!

لا أعلم لِمَ تراءى لي حال الأمَّة العربية كلّها من خلال فضيحة صور ومشاهد الأطفال الأيتام في "دار الحنان" ببغداد.
فقد كشفت المعلومات عن مركز "دار الحنان" بأنَّ مستودعاته مليئة بالأطعمة والألبسة بينما الأطفال عراة وهم "جلد على عظم" يعانون من الجوع والمرض.
أوَليس هذا حال الأمّة العربية المليئة بالثروات والخيرات بينما معظم شعوبها يعانون من الفقر والجهل ويفتقرون الرعاية الصحية السليمة؟

أوَليس حال حكومات عربية عديدة كحال المسؤولين عن "دار الحنان" من حيث تقاسم "الموارد" وتقييد أقدام الشعوب بسلاسل من القهر والدكتاتورية .. تماماً كمشاهد هؤلاء الأطفال المقيَّدة أقدامهم؟!
ثمَّ ما الفارق بين الاغتصاب والاعتداء الجسدي على الأطفال وبين اغتصاب حقوق الناس والأوطان؟!
وكما أيضاً في قصّة "دار الحنان"، تلك القصة التي كشفت عنها محطة تلفزة أميركية وجرى توظيفها من قبل المسؤولين الأميركيين بإظهار الجنود الأميركيين وكأنّهم "رجال إسعاف وإنقاذ" لا قوات احتلال، تتكرّر الصور نفسها في أماكن مختلفة من الأرض العربية حيث أصبح الاحتلال أو التدخل العسكري الأجنبي إنقاذاً للشعوب والأوطان من براثن الاستبداد الداخلي؟!

حتى الشعارات والأفكار النبيلة التي شوّهتها وتشوّهها ممارسات الكثير من الجماعات العربية والإسلامية، نرى صورتها هي الأخرى أيضاً في تسمية "دار الحنان".. وأي حنان!.
هي هكذا الآن مأساة العرب: مزيج من (دار الحنان) الداخلي و(سجن "أبو غريب") الخارجي.. وفي الحالتين هناك قيود لا بدّ لها أن تنكسر!.