مازال بعض الموهومين من العرب يعتقد بإمكانية التوصل إلى تسوية معقولة أو شبه عادلة مع إسرائيل، ويتوقعون أن انتصار هذا الحزب الإسرائيلي أو ذاك وسقوط هذه الإدارة الأمريكية ونجاح تلك يؤدي إلى تعديل الموقف وإنضاج الظروف لعقد مثل هذه التسوية ، وربما صارت الوسائل هي شغلنا الشاغل على حساب الأهداف التي كدنا أن ننساها.

إن قليلاً من التفكير والتأني والنظرة الموضوعية والمحاكمة العقلانية لظروفنا والظروف المحيطة بنا إقليمياً وعالمياً وقبل ذلك إسرائيلياً، توحي جميعها باستحالة التوصل إلى تسوية عربية إسرائيلية وخاصة فلسطينية إسرائيلية إلا إذا كانت مضامين هذه التسوية لا تتعدى الاستسلام الكامل أو شبه الكامل مع بعض الزخرف اللفظي والتفصيلات البراقة الخادعة التي عادة ما يتناولها الإعلام الأميركي والأوروبي ليجعلها انتصاراً عربياً مبيناً ويزوّر من خلالها وعي العرب ويسوّق أسوأ الاتفاقيات على أنها مكتسبات لا ريب فيها، وتأخذنا العزة بهذا الزيف ونعتقد أننا انتصرنا فعلاً.

هكذا عودتنا اتفاقياتنا وتسوياتنا مع العدو الإسرائيلي أو مع الولايات المتحدة أو غيرها منذ خمسينات القرن الماضي حتى الآن، ولا أريد أن أفجع القارئ بتعداد هذه التسويات الكارثية التي صفقنا لها على أنها انتصارات باهرة وهي في حقيقة الأمر ليست كذلك. نعود للبدء ونقول إن أية تسوية حالية مع إسرائيل لن تصل إلى احترام حقوقنا، لأنه من المتعذر حالياً لأسباب إسرائيلية وعربية ودولية، أن تتراجع إسرائيل عن الاستمرار في بناء الجدار العنصري العازل، أو تزيل مستوطناتها في الضفة الغربية وترحّل قطعان المستوطنين.

كما صرح قادة جميع الأحزاب الإسرائيلية وجميع الوزراء باستحالة العودة إلى خطوط الرابع من يونيو ودائماً ما يرفقون موافقتهم إن حصلت بعبارة (مع بعض التعديلات) كما يرفضون البتة إعادة القدس الشرقية إلى الفلسطينيين والفرق بين معتدليهم ومتطرفيهم في هذا المجال أن الأول قابل للتفاوض حول الأماكن المقدسة فقط، وفي الواقع لم يبق من القدس شيء يعيدونه، فقد هُدمت بعض أحيائها وضمت إليها ضواحيها واعتبرت هي وضواحيها أراضي إسرائيلية، هذا ناهيك عن استمرار اعتقال أكثر من عشرة آلاف فلسطيني معظمهم بموجب ما يسمى (قرارات إدارية).

وفي الوقت نفسه لا نجد إسرائيلياً واحداً يقبل بعودة اللاجئين (ولا حتى بالتعويض عليهم لأنهم يعتبرون ذلك من واجب الأمم المتحدة) أما الدولة الفلسطينية التي يدعو الرئيس بوش لإقامتها إلى جانب دولة إسرائيل وتوافقه الحكومة الإسرائيلية على قيامها فهي في الواقع ليست دولة، فلن تكون لها سيادة على حدودها ولا على بحرها ولا سمائها ولا على اقتصادها ومواردها ومياهها، ولا حتى على حقها في قبول الهجرة إليها، وستكون إسرائيل هي التي تغذيها بالمياه (من مياهها المسروقة) وبالكهرباء وتستبيح سماءها وتدخلها ضمن منظومتها الأمنية، أي في الخلاصة ستكون دولة حكم ذاتي مشوه لا يملك أية إمكانية للعيش، ويتوج ذلك كله بلفظيات وأكاذيب ودعاية مسمومة وأوهام بأن أصبح للفلسطينيين دولتهم.

لم تقل الحكومات الإسرائيلية المتتابعة غير ذلك ولا مرة، لا في أيام الضيق والضغط ولا في أيام الفرج والراحة، وكل ما فعلته هذه الحكومات أو تفعله ما هو إلا تهيئة لإنضاج الظروف لقبول الاستسلام سواء من قبل العرب أم من الفلسطينيين، وقد استطابت إسرائيل بمجتمعها وأحزابها وحكوماتها سياسة المماطلة وكسب الوقت لأنها اقتنعت أن التنازلات العربية لا قرار لها وأن مرور الوقت إنما يزيد العرب ضعفاً كما يزيد مكاسب إسرائيل حجماً ونوعاً.

كيف للعرب أن يصلوا إلى تسوية (عادلة وشاملة) وهم لم يستطيعوا إقناع إسرائيل بتطبيق اتفاقيات أوسلو وما تلاها من اتفاقيات، ورفع الحواجز التي تقطّع أوصال الضفة الغربية أو إقناعها بإعادة أموال السلطة الفلسطينية المحجوزة من رسوم الجمارك، أو فك الحصار (الغذائي على الأقل) الذي فرضته على غزة، أو فتح المعابر بين الضفة وغزة والعالم الخارجي، والمفارقة أن إيهود أولمرت نقل إلى مؤتمر شرم الشيخ بشرى اعتبرها عظيمة وهي أنه سيقترح على حكومته إطلاق سراح (250) أسيراً، وقد عودتنا حكومات إسرائيل أن من تطلق سراحهم عادة ما يكونون قد أشرفوا على إنهاء مدة محكوميتهم أو أنهم معتقلون بقرارات إدارية لعدم إمكان اختلاق تهم ضدهم، ولهذا فعلى الأغلب ستكون هذه الدفعة الموعودة على هذه الشاكلة.

إن أقصى ما وصل إليه مؤتمر شرم الشيخ هو وعد غامض من إيهود اولمرت باستئناف المفاوضات مع السلطة الوطنية الفلسطينية، دون تحديد الأهداف أو المدة، بل أصر في كلمته أن ذلك سيكون حسب خارطة الطريق، والعالم كله يعلم أنها خارطة ماتت منذ زمن بعيد ولم يعد أحد يأمل منها شيئاً. ما دام الأمر كذلك هل ندعو العرب للاستسلام والقبول بالتسوية المفروضة من إسرائيل والولايات المتحدة تحت ذريعة ضعفنا وقوتهم وعدم مواءمة الظروف العربية والإقليمية والدولية للوصول إلى تسوية عادلة؟.

إن الجواب هو بالتأكيد لا، بل على العرب إعادة النظر بإستراتيجيتهم ونظامهم الإقليمي وتضامنهم ورص صفوفهم والاستفادة من قواهم المبعثرة سواء منها الاستراتيجية أم الاقتصادية أم العسكرية أم غيرها، ليتمكنوا من فرض تسوية عادلة وشاملة لا استجدائها، وإجبار العالم الأوروبي والأميركي والحكومة الإسرائيلية كائناً ما كان شأنها على القبول بإعادة الحقوق العربية المهدورة منذ ستين عاماً.

لقد قبل العرب قرار مجلس الأمن رقم 242 بعيد عدوان يونيو 1967 رغم أنه يدل على تراجع كبير عن حقوقهم التي كانوا ينادون بها منذ نكبة 1948 ومع ذلك بقي هذا القرار حبراً على ورق ولم تقبل به إسرائيل وماطلت الولايات المتحدة في تنفيذه ثم حاولت استبداله بمبادرة وزير خارجيتها روجرز عام 1970.

ثم قبل العرب القرار 338 بعيد حرب 1973 ولقي هذا القرار المصير نفسه الذي لقيه سابقه، واستمروا يكررون في خطابهم السياسي وتصريحاتهم وقراراتهم وفي كل مناسبة ضرورة تطبيق القرارين 242 و 338 دون أن يطبقهما أحد، ثم ميّعت إسرائيل مقررات مدريد وخاصة قرارها الرئيسي (الأرض مقابل السلام) وذهبت مدريد وقراراتها ومؤتمرها أدراج الرياح، وأفشلت بعد ذلك اتفاقيات أوسلو وما تلاها مع الفلسطينيين دون أن تلاقي استنكاراً أو يرف لها جفن، ثم لم تعر شأناً للمبادرة العربية عام 2001 ولا لتجديدها عام 2007.

وكل هذا لم يقنع العرب أن إسرائيل تنتظر الظروف المناسبة لفرض الاستسلام لأنها لا تريد التسوية، وما زال العرب يأملون بتسوية عادلة دون أن يغيروا الظروف الحالية والشروط الحالية، فكيف يتسنى لهم ذلك؟. لعله من الوهم انتظار تسوية عادلة بالظروف القائمة حالياً، فلا ينفع مع إسرائيل والولايات المتحدة لا الاستجداء ولا التنازلات

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)