كلما تناقلت وكالات الأنباء أخباراً عن إخفاق الاستعمار الأمريكي في العراق، أو أذاعت خبراً عن مقتل عدد من الجنود الأمريكيين (وهو حدث يومي تقريباً) كلما تصاعدت حدة توتر الإدارة الأمريكية التي دخلت في مستنقع الحرب غير العادلة، وهاجمت في تصريحاتها الدول (غير المهرولة) تجاه البيت الأبيض، بل الممانعة لمصادرة قرارها الوطني والرافضة لسياسة التسلط الأمريكية على العالم.

ولأن القاموس الأمريكي (المقلوب رأساً على عقب) وجد في المنطقة العربية (خصوصاً) وفي بعض دول أوروبا (عموماً) أذناً صاغية رغم رداءته، فقد بات البعض يرددون مفردات هذا القاموس كـ(الدولة المارقة أو الدولة الداعمة للإرهاب أو الدولة التي تحاول زعزعة أمن المنطقة) وأصبح المثال اليومي على دول كهذه (سوريا) التي لم تخل كلمة للرئيس بوش أو مؤتمر صحفي تعقده وزيرة خارجيته (كونداليسا رايس) إلا وتوضَع سوريا على رأس قائمة هذه الدول (وفقاً للمنظور الأمريكي)، رغم أن جميع هذه الاتهامات تبنى على أساس البوصلة الأمريكية وليس على دليل حسي وملموس، وصارت هذه الاتهامات تلقى آذاناً صاغية أو (صاغرة) من بعض الأنظمة العربية التي تسير في مركب الولايات المتحدة معتقدة أن امتطاء هذا المركب سيؤدي إلى إنقاذ رقابها من الحبل الأمريكي، بل تمادت بعض الدول إلى درجة طالبت فيها (العام الماضي) إسرائيل بأن توسع اعتداءها على المنطقة وتهاجم سوريا!! ولعل كتاب (أسرى في لبنان- الحقيقة عن حرب لبنان الثانية) الذي صدر عن دار نشر (يديعوت أحرونوت) هو مثال على ما نقول، حيث كشف عن دعوات عربية وأمريكية وأوروبية لضرب سوريا أثناء حرب إسرائيل على لبنان.

بعض العرب على ما يبدو ظنوا بأنهم ركبوا (سفينة نوح الأمريكية) وتركوا المنطقة تغرق في تناقضاتها طالبين الخلاص الفردي، الذي لن يؤدي في النهاية إلا إلى ابتلاع الدول العربية واحدة تلو الأخرى ولن يحقق إلا تقسيم ما هو مقسَّم أصلاً، وقد صموا آذانهم وارتدوا النظارة الأمريكية وأقنعوا أنفسهم بأن الخطر الداهم هو (إيراني- سوري) وساهموا في اختراع هذه (الكذبة) ثم (صدّقوها) ومازالوا يضخمون هذا الخطر الوهمي بهدف ترسيخه لدى الرأي العام.

ورغم جميع المواقف (السورية- الإيرانية) المقاومة لاحتلال إسرائيل للأراضي العربية ورغم احترام الذات الوطنية الذي تتمتع به الدولتين وإصرارهما على عدم التفريط بهذه الذات، من أجل مصلحة أي كان سواء كان أمريكياً أم اسرائيلياً أم غيرهما، ورغم استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، مازال البعض يخطب ود إسرائيل والولايات المتحدة متعامين عن تخريبهما للمنطقة، وعن الواقع العراقي (المقسّم) والواقع اللبناني (الأكثر تقسيماً) وأخيراً وليس آخراً الواقع الفلسطيني (الضفة الغربية، وقطاع غزة) الذي فرضه الاستعمار بقوة السلاح الإرهاب، وكأنهم يعيشون في عالم آخر بل ويساهمون بإبقاء الواقع العراقي واللبناني والفلسطيني على ما هو عليه بهدف المساهمة بالسعي لتحويله إلى أمر واقع يتحقق على الأرض ليتم الانتقال بمهمة تخريبية تقسيمية إلى دول أخرى تحقيقاً لمشروع الشرق الأوسط الجديد (الطائفي- العرقي)..

ولكن هل ستترك الولايات المتحدة وإسرائيل هؤلاء العرب بحالهم..؟ هم يتصورون ذلك على ما يبدو.. ويظنون أن صداقة قد تتم بين (الذئب والحمل) ولا يدركون حقيقة أن فسيفساء الطوائف والأعراق في المنطقة هي أحد أهم عوامل تميزها عن غيرها، بل يمعنون وبمباركة (أمريكية- إسرائيلية) بإذكاء نار الفتنة بين أبناء الشعب الواحد وتمويلها، وهم لا يدركون بأن الفتنة إن قامت فإنها ستبتلع من (أججها ومولها) أولاً..؟

ليس مطلوباً الآن تحقيق الحلم العربي بالوحدة، بل التنسيق لتحقيق موقف واحد يؤدي إلى مستقبل أفضل للمنطقة، وهذا يحتاج إلى وقفة مع الذات ووعي حقيقة ما يحاك في الخارج، والاعتراف بالأخطاء وتصحيحها واستيعابها، والاستماع إلى شعوبها، والخروج من عباءة العرقية والطائفية ودخول عباءة الوطنية، بممانعة المشروع (الأمريكي- الإسرائيلي) ولو أدى ذلك لوصفهم (أمريكياً) بدول مارقة.