آفاق

رأيت صورتها فوق شاشة الإنترنت، صورة "بدور"، الوجه المضيء بالأمل في المستقبل، يشبه وجهي حين كنت طفلة في عمرها، منذ ستين عامًا وأكثر، حين أمسكتني أربع نساء من الفتوات، ذوات الأصابع الحديدية، قبضوا على ذراعي وساقي، وكتفوني مثل الدجاجة قبل الذبح، ثم قطعوا بالموسى الصدئ العضو الآثم الملعون، المخلوق بالطبيعة بين فخذي، وكانت أمي واقفة وراءهم "ترمقني بابتسامة مريرة، تعرف أنهم يبترون من جسدي ما بتروه من جسدها وهي طفلة، تعرف أنها لم تعرف في حياتها معنى السعادة، أو اللذة الجسمية، أنها تزوجت وأنجبت تسعة من البنات والأولاد دون أن ترتعش فيها خلية واحدة باللذة، التي كانت تغمر زوجها وتجعله ينتفض بالنشوة، وكانت تحسده، وفي أعماقها تلعن أمها وأباها وجميع أفراد العائلتين الكبيرتين، في الريف والمدينة، الذين تعاونوا معًا من أجل حرمانها من السعادة.

ويقول لها الرجال ممن يخطبون في الراديو والمساجد، وأطباء وطبيبات من أتباع الخطباء، وضعوا الحجاب على عقولهم: "إن السعادة لا علاقة لها بذلك العضو الآثم الملعون، بل السعادة هي التخلص منه، والتفرغ لخدمة الزوج والأطفال، والصوم والصلاة وزيارة قبر الرسول قبل الموت".

وماتت أمي في ربيع شبابها، وقبل أن تموت قالت لي: اغفري لي يا ابنتي، لقد فعلت بك ما فعلوه بي دون أن أدري، عشت حياتي داخل الخوف والجهل، وأموت اليوم بالخوف والجهل".

كلمات أمي كانت الضوء، لنزع الغشاوة عني، لم أعد أصب اللعنات على أمي ولا أبي ولا الخطباء في المساجد، ولا الأطباء والطبيبات.

حوَّلت الغضب في أعماقي إلى الخارج، جعلته طاقة جديدة لكتابة عمل جديد، يكشف زيف الخطباء، وتخلف الموروثات، وصدر لي كتاب يفضح عمليات الختان، ويكشف مضارها الطبية والاجتماعية.

كان ذلك في منتصف القرن الماضي، وما إن صدر الكتاب حتى انتشر رجال البوليس في الشوارع يجمعونه من المكتبات، قالوا عنه كتاب من وحي الشيطان، إن غدة الشيطان تفرز هذه الأفكار المعادية للدين والأخلاق، وكان وزير الصحة مثل غيره من الأطباء يعيش الخوف والجهل، فأصدر قرارًا بإعدام الكتاب، وعقاب المؤلفة بالفصل من عملها، وتشويه صورتها في الصحف والإعلام، باعتبارها خارجة عن تعاليم الطب السليم والدين الحنيف.

إلا أن عمري امتد وطال لأعيش وأقرأ أن وزير الصحة يصدر قرارًا يحرم ختان البنات، بل أغرب ما أشهده في حياتي، أن يعلن مفتي الديار أن ختان البنات حرام، وقد سبقه رجال دين وأكثر من مفت، وأكثر من شيخ أكبر، يؤكدون أن عدم ختان البنت إثم وضلال وتشجيع علي الفسق والانحلال.

أكان يجب أن تموتي يا بدور حتى يتسرب بعض الضوء إلى خلايا العقل المظلمة، أكان يجب أن تدفعي حياتك الغالية ثمنا حتى يتعلم الأطباء شيئًا بديهيا؟ أكان يجب أن تنزفي آخر قطرة من دمك الطاهر الطفولي حتى يتعلم رجال الدين، أن الدين الصحيح لا يقطع أعضاء الأطفال بالموسى حفاظًا على العفة والأخلاق؟

إن الاخلاق سلوك يتدرب عليه الإنسان وليس مشرطًا يقطع أعضاءه.

وكم من طفل نزف حتى الموت علي يد حلاقي الصحة في الريف، ويد الأطباء في المدن إلا أن موت هؤلاء الأطفال الذكور يندثر في العدم، ولا يصل إلى الإعلام، كما وصلت حالة "بدور" وكشفها الناس.

وهل تنتظرون موت طفل كما ماتت بدور حتى تحرموا ختان الذكور أيها السادة؟!

منذ سنين طويلة أرسلت رسالة إلى وزير الصحة وإلى نقابة الأطباء، وإلى أصحاب الضمائر في بلادنا، قلت فيها إن ختان الذكور عملية ضارة للأطفال جسديا ونفسيا واجتماعيا، وبينت ذلك في كتاب لي صدر منذ سنوات.

وصدرت كتب أخرى تفضح مضار ختان الأطفال ذكورًا وإناثًا، إلا أن أحدًا لا يهتم، بل تكال الاتهامات لكل من تصدى لهذه العمليات الخطيرة، أقلها الاتهام بالكفر أو معاداة الإسلام.

مع أن ختان الإناث أو الذكور لم يرد في القرآن، ولم يرد في الإنجيل.

هناك فقط آية في التوراة توجب ختان الذكور على بني إسرائيل فقط، نظير الأرض الموعودة التي منحها الله لهم، أرض كنعان أو فلسطين.

واليوم لم يعد أحد عاقل في العالم كله يقدم على ختان أطفاله البنات أو الأولاد، حتى بنو إسرائيل الذين يؤمنون بالتوراة، قد كفوا عن إجراء هذه العمليات الضارة لأطفالهم، رغم نص التوراة، ذلك لأنهم يتبعون عقولهم، والمنطق الصحيح، ويراعون المصلحة والصحة وليس النص.

وعندنا مدرسة عريقة في الإسلام، تقول: إذا تعارض النص مع المصلحة غلبت المصلحة لأن النص ثابت والمصلحة متغيرة.

أخذ بنو إسرائيل هذه الفكرة اللامعة من هذه المدرسة الإسلامية العريقة الخلاقة، لكن أغلب المسلمين في بلادنا لم يعرفوا شيئًا عن هذه المدرسة الإسلامية، ولا يزالون يتبعون الشيخ الشعراوي رحمه الله، الذي قال إن قطع بظور النساء واجب ديني حتى إذا ركبت المرأة دابة فإنها لا تثار جنسيا، بسبب احتكاك البظر بظهر الدابة.

أذكر أنني كتبت مقالاً بمجلة "المصور"، ردًا على هذا المنطق العجيب للمرحوم الشيخ الشعراوي، وقلت إن عضو الرجل يحتك أيضًا بظهر الدابة، فهل نأمر بقطع أعضاء الذكور؟

وقلت أيضًا إن ركوب الدواب قد اختفى مع اكتشاف العجلة والسيارة والطيارة.

وقلت أيضًا إن الإثارة الجنسية مصدرها العقل في الرأس وليس العضو أسفل البطن.

وقلت الكثير، واتهمني المرحوم الشيخ الشعراوي بأنني حليفة الشيطان، وأعمل من أجل ابليس، أما فضيلته فهو يعمل من أجل الله.

من هذه المسافة البعيدة يا "بدور"، من وراء البحار والمحيطات أقول لك: أجل كان يمكنك بعقلك الخلاق أن تكوني كاتبة عظيمة، أو موسيقية، أو عالمة فضاء، أو باحثة عن علاج للأمراض الجسمية والعقلية المستعصية في بلادنا.

أجل يا "بدور" لقد أمسكوك وكتفوك كالدجاجة، وذبحوك، قربانًا لخزعبلاتهم، وجهلهم، وخوفهم، ورعبهم، من ذلك العضو الصغير في جسدك، الذي يهدد عروشهم الواهية التي بنوها على مدى الأعوام من الأوهام.

وأقول لأسرة "بدور" أن يجعلوا من دم ابنتهم المراق شعلة تضيء العقول، ألا يركنوا إلى الصمت والنسيان، تحت أي إغراء، أو تحت أي تهديد، أن يرفعوا أصواتهم عالية حتى السماء، ألا يركنوا إلى النوم أو الراحة، حتى تكون قضية بدور هي القضية، ليست أقل من قضايا تحرير الأرض والوطن، لأن أي وطن بلا عقل يندثر في التاريخ، وأي أرض بلا إنسانية تذهب وتضيع.