لقد علمت أن شيئاً ما يجري في مدينة لندن، ما أن تعذّر عليّ الحصول على سيارة أجرة. ثم سرعان ما رأيت الطائرات العمودية وهي تحلق في السماء، فسألت أحد المارة مستفهماً عما يجري، فأخبرني عن العثور على سيارة مفخخة بقرب ملهى ليلي يبعد حوالي ست بنايات فحسب من الفندق الذي كنت أقيم فيه. ولم يتسن لي العثور على سيارة أجرة إلا بعد مضي بضع ساعات من محاولتي الأولى. وما أن جلست حتى بادر سائق التاكسي إلى تحذيري من أنه كان متعذراً التنقل داخل المدينة، خاصة بعد العثور على سيارة مفخخة أخرى في أحد مواقف السيارات. ثم تتالت أخبار العمليات الإرهابية تباعاً في اليوم التالي، حيث تم الكشف عن المزيد منها: فقد اقتحم أحد الانتحاريين بسيارته المفخخة مبنى مطار جلاسجو في اسكتلندا، ثم قفز من سيارته وقد أحاطت به النيران من كل جانب بينما ظل يصيح "الله... الله". وما أن سمعت تلك الأخبار حتى طرق ذهني سؤال الدهشة: هل أنا في بغداد أم في كابول، أم في تل أبيب؟! والإجابة التي لا شك فيها أنني كنت في قلب العاصمة البريطانية لندن. لكن وللحقيقة، فإن في وسع لندن هذه اللحظة أن تكون أي مكان آخر من هذا العالم، ينشط فيه الإرهابيون. ولذلك فليس غريباً أن ينتقل مسرح الشرق الأوسط كله إلى جوارك هنا في بريطانيا. والغريب أن هذا الفيلم يزيدك تشويشاً واضطراباً كلما شاهدته كل مرة! فلدى مشاهدتنا له للمرة الأولى في 11/9، كانت قصته تدور حول الوجود العسكري الأميركي في قلب شبه الجزيرة العربية. أما عندما عرض تارة أخرى في 7 يوليو، فقد كانت قصته عن الشباب المسلمين البريطانيين العاطلين عن العمل، والذين طغت عليهم مشاعر الإقصاء والاستبعاد من المشاركة في الحياة العامة. أما في وقت ليس بالبعيد من الآن، فقد كانت القصة عن حفل زواج جرى في أحد الفنادق الغربية في الأردن. وفي المغرب، فقد دارت قصة الفيلم في أحد مقاهي الإنترنت مؤخراً. ثم تكررت القصة على نحو مختلف قبل يومين فحسب في اليمن، حيث دارت حول سبعة من السياح الإسبان الذين لقوا حتفهم جميعاً، جراء اقتحام أحد الانتحاريين للموقع السياحي الذي كانوا يتواجدون فيه، بسيارته المفخخة. والسؤال هنا: أليست إسبانيا هي الدولة الأوروبية التي سحبت جميع قواتها من العراق، حتى تبقي مواطنيها بعيداً عن محرقة الإرهاب هذه؟!

وبسبب الوقوع المتفرق لهذه الأحداث جميعاً، فإننا نذهل في كل مرة تقع فيها إحداها. والحقيقة أن مئات الإرهابيين الإسلاميين قد فجروا أنفسهم خلال الأعوام القليلة الماضية ليزهقوا أرواح المدنيين الأبرياء، من دون أن يعبروا عن أية مطالب سياسية محددة، ومن دون أن يترتب على تلك الأفعال أي شجب مستمر لها في العالم الإسلامي. والشاهد أن تيارين يفعلان فعلهما هنا، هما الإهانة والأحادية. والمعلوم عن الهوية الإسلامية أنها تقدم نفسها باعتبارها الأكثر كمالاً وتعبيراً عن رسالة التوحيد الإلهية، بينما يقدم القرآن على أنه الرسالة السماوية الخاتمة لكل الديانات، ومن ثم الأكثر كمالاً. ولذلك، تنشأ الأجيال الشابة المسلمة، على الشعور بأن ديانتها هي الأسمى والأكثر كمالاً، قياساً إلى كل الديانات الأخرى: المسيحية واليهودية والهندوسية. وما أقصده بالإهانة هنا، أن المسلمين الذكور، والمتعلمين منهم بصفة خاصة، يندفعون نحو التطرف والتعبير عن آرائهم بأدوات العنف، نتيجة لتزايد شعورهم بالمفارقة الغريبة، بين كون ديانتهم ونظامهم الاجتماعي، يفترض فيه أن يكون الأكمل بحكم استناده إلى تعاليم الإسلام، في حين أن شعوب الديانات الأخرى، هي التي تعيش في مجتمعات أكثر ازدهاراً وديمقراطية واستقراراً من مجتمعاتهم المسلمة. ومن هنا ينشأ الشعور بالحنق والإهانة: كيف يمكن لهذا أن يحدث؟ ومن الذي فعل بنا ذلك؟ وسرعان ما تخطر الإجابات: إنهم الصليبيون واليهود والغرب. وهكذا يحدث الانفجار وتنشأ ردود الفعل الغاضبة، نتيجة العجز عن رد ما يحدث إلى واقع المجتمعات المسلمة نفسها.

وبينما كانت العمليات الإرهابية تتطلب في الماضي، توفر بنية تحتية لها خلاياها الناشطة سواء في بيروت أم أفغانستان، كي تبدأ ضربتها في شتى أنحاء العالم، فإن ذلك قد مضى إلى غير رجعة. وكل الذي تحتاجه تلك العمليات اليوم، هو توفر أفغانستان افتراضية، أي معقل افتراضي لانطلاق العمليات، قوامه شبكة الإنترنت والقليل جداً من أجهزة الهاتف النقال، كي يصبح ممكناً استقطاب وتجنيد المزيد من المقاتلين المنتشرين في شتى أنحاء العالم. إلى ذلك لاحظ الجنرال مايكل هايدن، مدير وكالة المخابرات الأميركية، أنه كان يسهل جداً العثور على العدو السوفييتي إبان الحرب الباردة، بينما يصعب جداً إنهاء الحرب معه. أما في عالم اليوم، فالعكس صحيح تماماً، إذ يسهل إنهاء الحرب مع العدو الإرهابي، في حين يصعب العثور عليه من الأساس. ومضى "هايدن" مستطرداً في حديث له ألقاه مؤخراً: "فنحن نبحث الآن عن أفراد أو مجموعات صغيرة تنهمك في التخطيط لشن عمليات انتحارية، أو في إدارة المواقع الإلكترونية الإرهابية، إلى جانب التخطيط لإرسال المزيد من المقاتلين المتطرفين إلى العراق".

وعليه فما أصعب العثور على هؤلاء، وما أسهل قتلهم، دون القول بسهولة استئصالهم مطلقاً. وعلى الرغم من أنه ليس صحيحاً القول إن جميع المسلمين إرهابيون، إلا أن الملاحظ أن جميع الانتحاريين ينتمون إلى الإسلام في عالم اليوم، وهذا ما دفع هذا الورم السرطاني عميقاً في تربة الحضارة الإسلامية، وبدأ بتآكلها من الداخل. وهنا يأتي دور القادة المسلمين في التصدي لهذا الورم واستئصاله، قبل أن تتسمم العلاقات بينهم ومجتمعاتهم من جهة، وبين تلك المجتمعات وبقية شعوب العالم من الجهة الأخرى.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)