إذا كان "النظام العربي" بتياره الرئيسي حاليا ممثلا بالسعودية ومصر والاردن وبتياره الآخر المؤثر سوريا يتنافس بصور مختلفة على السلام (السريع) مع اسرائيل عبر السعي لطي الملف الفلسطيني وملف الاراضي السورية المحتلة على اساس حل شامل، بل يبلغ هذا "النظام" حد عرض "التحالف" مع اسرائيل ضد الاصوليات الاسلامية... فإن السؤال الجوهري على الضفة الاخرى، الضفة الاسرائيلية هو:
هل ترغب اسرائيل فعلا في اقامة "تحالف" مع العرب ام ان الامر لا يعدو كونه استخداما تكتيكيا، اولا للتناقضات العربية - العربية والآن الفلسطينية – الفلسطينية ثم للضغط على ايران لمنعها من استكمال مشروعها النووي؟ لنفترض هنا – عند هذه النقطة بالذات – انه تم التوصل الى حل "كوري" للموضوع الايراني ودخلت العلاقات الاميركية – الايرانية في مرحلة جديدة. اين تصبح الحسابات العربية والاسرائيلية؟ وكم سيؤثر ذلك على نسبة الاهتمام الاسرائيلي بـ"الورقة" العربية؟
هل تريد اسرائيل ما يتخطى رؤية "لسلام" مع الفلسطينيين، تعرف انه لا يرضيهم حتى الآن، وبالتالي لا يستطيعون القبول بصيغته الاسرائيلية مما يعني عدم قبول العرب به؟ واتصالا بهذا السؤال هل اسرائيل مهتمة فعلا باخراج العرب من "مأزق" ارتباطهم بالموضوع الفلسطيني لكي تتاح لهم – اي للقوى العربية الراغبة ببناء قواعد علاقات جديدة معها – ولربما بناء تحالف مع اسرائيل على اساس مصالح مشتركة بعد الانتهاء من حل المشكلة الفلسطينية، حل الدولة الفلسطينية في القطاع والضفة على ان تكون العاصمة في القدس الشرقية؟
أخطر (اخطر على من؟) ما يمكن ان يولّده المشهد العربي الحالي، من النزاعات المذهبية (الجديدة على تاريخنا الحديث) الى الصراع بين الانظمة القائمة والتيارات الاصولية داخل عدد من بلدان المنطقة، ناهيك عن تفاقم الازمات الاقتصادية والاجتماعية وما يرافقها من مزيد من السمعة السيئة في الفساد والزبائنية للنخب السياسية في بلدان مثل لبنان والعراق وفلسطين وغيرها... أخطر ما يمكن ان يولّده هذا المشهد هو ظهور رهانات اسرائيلية تبالغ في تقدير حاجة "العرب" (اي الانظمة وبعض القوى السياسية) الى اسرائيل وليس العكس، استنادا الى مظاهر التنافس الحالي الفعلي بين المحاور العربية على اقناع اسرائيل بفتح قنوات التفاوض المعلنة.
يمكن احيانا في المرحلة الحالية، ان يتلمس القارئ المتابع للكتابات السياسية في الصحافة الاسرائيلية، لاسيما بعد احداث غزة، بداية افكار اسرائيلية تتحدث عن كون اسرائيل هي عمليا "عنصر تماسك" او ما تبقى من تماسك المنطقة المحيطة بها. يمكن فهم هذا الرأي اذا نُظر الى اسرائيل على انها "العدو" المتبقي الذي يمكن ان تجتمع الثقافة السياسية العربية حوله... انظمة ومجتمعا. لكن الارجح – والاكثر مأساوية بالنسبة لمراقب عربي – ان يكون مصدره حالات التفكك المتمادية لدول عربية مثل العراق ولبنان وفلسطين، ناهيك بدول اخرى مهددة بالتفكك. هكذا يمكن ان يتضخم شعور الاطراء الذاتي لدى النخب الاسرائيلية بان اسرائيل الدولة الوحيدة المتماسكة او الناجحة في المنطقة... وقد يصل هذا التباهي الاسرائيلي الى حد التساؤل الاستراتيجي غير المعلن عن مدى الحاجة للرهان على حصان مستقبلي خاسر هو "العرب"... في ما يتخطى الاستخدام التكتيكي للتناقضات بين دول عربية ونظام آخر يسيطر على دولة متماسكة بدون شك هي ايران ولكنها بمعايير مستقبلية اقتصادية وتحديثية دولة متخلفة ايضا... استخدام ينحصر بلجم مشروعها التحول الى قوة نووية عسكرية. ولربما ايضا تكون ايران نسخة – ضعيفة – عن اتحاد سوفياتي انفصل فيه التفوق العسكري عن التخلف الاقتصادي في بنية الدولة.... الى حد الانهيار الذاتي السلمي كما حدث لتلك الامبراطورية الشيوعية في اواخر القرن العشرين.
قد يكون من السهل في الاوساط الثقافية لعواصم مثل واشنطن او باريس او لندن او لمدن عالمية مثل نيويورك ان نسمع كلاما عن حاجة العرب للتحرر من ارث عدائهم لاسرائيل او "افكارهم المسبقة" عنها، لكن من النادر ان نقرأ رأيا او نسمع صوتا يسأل عن مدى سماكة الجدارات الاسرائيلية، سواء في المؤسسة الامنية – السياسية للدولة العبرية او في اوساط النخبة النافذة والتي تمنع من الانفتاح المثمر على الوضع العربي ومفتاحه الحل العادل للقضية الفلسطينية. لقد كان "اتفاق مكة" آخر اكبر الوقائع على "تفويت الفرص". فلقد جاء العاهل السعودي بقادة "حماس" و"فتح" ليس فقط لوقف الاقتتال بينهما وليس فقط تحت هاجس الحد من علاقة "حماس" بايران، اذ لو توفر رد فعل اسرائيلي اميركي بنّاء على "اتفاق مكة" لكان هذا الاتفاق قد اصبح تعبيرا عن تحول تاريخي: انه انخراط "حماس" في التسوية مع اسرائيل. ولدى المسلمين تحتل "مكة"، عدا كونها المدينة الاكثر قدسية، موقعا في الذاكرة باعتبارها مدينة التصالح حتى مع اعداء الاسلام... كما فعل النبي في صلح دخول مكة الشهير.
رفض الاسرائيليون – رغم الكلام المداور لايهود اولمرت – ورفضت ادارة بوش – رغم الكلام الايجابي لكوندوليزا رايس – التلقف العملي الذي يؤدي الى نجاح اتفاق مكة. فبقي الحصار على حكومة الوحدة الوطنية، مثلما كان على حكومة "حماس" رغم الاعلان المتذاكي في القدس وبروكسل وواشنطن عن قبول التعامل مع الوزراء غير "الحماسيين" في الحكومة...
هذا في الاجراءات السياسية... فكيف حين تزدحم "الافكار المسبقة" عن عدم قابلية العرب للتقدم والديموقراطية، او من نوع ما نُقل عن بعض السياسيين الاسرائيليين في الصحافة الغربية من ان اسرائيل يجب ان لا تكون معنية بالانفتاح بدون شروط على انظمة عربية غير ديموقراطية تريدنا ان نساعدها على قمع معارضيها الاصوليين ولا تفهم التعاون معنا الا كونه تعاونا يعزز سلطتها غير المنتخبة.
الحجج الاسرائيلية لضرب اي افق سلام جدي في المنطقة، باسم نقد الديكتاتوريات العربية، ليست جديدة. فلطالما لجأ اليمين الاسرائيلي بعد "اتفاق اوسلو" الى رفض هذا الاتفاق، او اي اتفاق سلام آخر على اساس الادعاء بأنه لا يمكن بناء سلام بين ديموقراطية (هي اسرائيل) وديكتاتوريات (على الجانب العربي)... دون ان يسأل المحاججون انفسهم – وابرزهم بنيامين نتنياهو في كتابه الشهير بعد "اوسلو"، كذلك بعد حوالى العقد كتاب ناتان شارانسكي – هل يمكن بناء سلام مع نظام عنصري بل مع آخر نظام عنصري في العالم بعد سقوط نظام جنوب افريقيا؟ والمقصود طبعا بدون لبس النظام العنصري الاسرائيلي، ناهيك بالتحاجج التقليدي بين اليمين واليسار الاسرائيليين منذ مؤتمر مدريد والذي اعتبر فيه اليسار ان السلام مع اي دولة عربية يفتح الباب امام تحولها الى ديموقراطية لان الصراع مع اسرائيل شكّل دائما مبرر مصادرة الحريات... وهو رأي تدعمه التجارب العربية نفسها بل ان العديد من النخب العربية المعارضة تعتبر الشرط الموضوعي لانجاز الديموقراطية هو انتهاء المسألة الوطنية، مع ان اليسار الاسرائيلي لا يتجاوز هذه النقطة في التحاجج ولا يقبل الاعتراف بمدى الاثر التدميري الذي أحدثه تأسيس اسرائيل على كل الانجازات الليبرالية لجيلين كاملين في العالم العربي في المجالات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية خلال النصف الاول من القرن العشرين في ولايات عربية من الامبراطورية العثمانية ثم لاحقا في دول عربية كلبنان ومصر والعراق وسوريا قبل عام 1948، إن في المستوى الواعد والصاعد لنظمها السياسية او في التقدم التحديثي الثقافي والعمراني يومها، الا ان بدأت الرواية الكئيبة بل المأسوية للتاريخ العربي الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين، مباشرة بعد ولادة اسرائيل.

• • •

تحضرني قسوة التاريخ في خاتمة سلسلة التأملات هذه ...
خسرت "المارونية السياسية" بعد 1975 – 1990 يدها العليا على الدولة اللبنانية التي اسستها برعاية فرنسية، وكان للعلاقة التي اقامها بعض احزابها مع اسرائيل اثر حاسم في هذا المآل: لقد تحولت لعنة اللاشرعية العميقة لهذه العلاقة التي وسمت كل الموقع الكياني لـ"المارونية السياسية" في الصراع على صيغة لبنان بعد 1975 الى سبب جوهري للخسارات المتلاحقة التي افضت الى ما آل اليه – حتى اليوم بدون حل – مأزق بنية الدولة اللبنانية.
ها هم "العرب" اليوم عرب النظام الاقليمي "يلعبونها"... لكن بطريقة مختلفة وبشرعية مختلفة، اذن بقوة مختلفة، بصفتهم دولا لا جماعات مساهمين في إحداث تحول تاريخي غير معلن في موقع اسرائيل في المنطقة تحت ضغط مواجهة الاصوليات المنفلتة من عقالها.
لكن النتائج غير واضحة... والاكثر غموضا بينها هو ما تريده اسرائيل بل الادق ما تستطيع اسرائيل ذات البنية الصهيونية الاستيطانية ان تريده.

مصادر
النهار (لبنان)