تجري أحداث في بلاد العرب والمسلمين من مغربها إلى مشرقها أقل ما يمكن أن يطلق عليها من وصف هو العبث والجنون، مما أدى ويؤدي إلى إضعاف مسيرة الأمة وإيقاف تطورها والإساءة لسمعتها ودينها والتشكيك بقيمها العظيمة التي راكمتها خلال التاريخ الطويل.

وفرض قيم جديدة أقلها استسهال القتل وسفك الدماء وإطلاق الفتاوى ممن لا يعرفون من الفقه والدين شيئاً، وتفتيت المجتمعات العربية والإسلامية وتحويلها إلى شيع وطوائف وتيارات متناقضة متحاربة لا يجمعها جامع ولا تتفق على شيء، ويهيئ المناخ للفوضى والضعف واستقدام الغزاة والطامعين، وهدر قدرات الأمة وثروتها وطاقاتها وإعادتها إلى عصور الانحطاط بل إلى ما هو أشد من عصور الانحطاط.

وذلك كله تحت شعارات حماية الدين وصونه والجهاد في سبيله وإرضاء وجه الله، في الوقت الذي تؤدي هذه الممارسات إلى تشويه الدين الحنيف والاستخفاف بتعاليمه وإغضاب الله وملائكته ورسله، والسير بالمجتمعات العربية والإسلامية إلى التهلكة، ومن يعرف؟ فقد يكون جرها إلى سلوك سبيل الانقراض والتلاشي.

لقد استسهلت تنظيمات عديدة توجيه السلاح بلا هدي للآخرين، وفرحت بالحصول على السلاح وإتقان التدريب على استخدامه وتفخيخ السيارات وتفجير العبوات الناسفة والمتفجرات الأخرى، ولم تستفد من التقنية والمخترعات سوى بهذا الجانب، فأخذت تستعمله كما يستعمل الأطفال لعبهم دون مسؤولية أو تفكير أو تعقل أو امتلاك رؤى سياسية أو أخلاقية، فصار الهدف هو التفجير وإطلاق النار كيفما كان.

ونشأت طبقة من المفتين الجهلاء الذين لا يعرفون من الدين شيئاً ويعتمدون على بضع آيات يحفظونها بعد تجريدها من سياقها التاريخي وجهل أسباب نزولها ومقاصد الشريعة منها، حتى ان بعض هؤلاء المفتين لم ينه دراسته الابتدائية ومازال يخطئ في الإملاء، ومع ذلك ينصب نفسه قائداً ومفكراً ومحللاً ومحرماً مما كان الأنبياء والرسل لا يدّعونه ولا يمارسونه إلا بوحي من الله تعالى.

لقد عمت ظاهرة هؤلاء الإرهابيين مشرق البلاد العربية والإسلامية ومغربها، ولمّت تنظيماتهم العاطلين عن العمل والجهلة والمهووسين وأنصاف المؤمنين الذين أعطوا لأنفسهم حق المحاكمة وتنفيذ الحكم بيقين قل مثيله، وببرودة أعصاب نادرة، وبإيمان لا يتزعزع بقدسية ما يعملون، ويعتقدون أنهم بذلك يخدمون الإسلام مع أنهم يعطون للسياسة الأميركية والإسرائيلية المبررات التي تبحث عنها لغزو بلادنا وتشويه قيمنا وديننا.

لم تسلم المملكة المغربية والجزائر وتونس ومصر وسوريا والعراق ولبنان والسعودية والأردن وباكستان وأفغانستان واندونيسيا ولا حتى بنغلاديش ولا غيرها من الممارسات الإرهابية لهؤلاء، فعم التفجير والقتل دون تمييز بين المستهدفين وسالت الدماء، وكان أبناء الأمة الأبرياء والبسطاء هم الضحايا في الغالب الأعم، وتم تصنيف هذه الحركات كلها على أنها إسلامية.

وتبنت أسماء إسلامية من جند الشام إلى فتح الإسلام إلى الجيش الإسلامي إلى عصبة الأنصار ومنظمة أنصار الله وتنظيمات القاعدة على مختلف تنوعاتها وأسمائها وكل بما لديهم فرحون، ويعتقد كل منهم أنه يجاهد مع أن مفهوم الجهاد ومعاييره في الإسلام مبنيان على فلسفة شاملة متماسكة واسعة وغنية مازال الفقهاء يتحاورون حولها منذ نزول الوحي، فجاء هؤلاء وأعطوا مفاهيم جديدة للجهاد غير مبنية لا على الدين ولا على الشريعة والفقه ولا على فلسفة الإسلام، واكتفوا بأن سموا أنفسهم بمسميات إسلامية ليبرروا ارتكاب أكبر الجرائم معتقدين أنهم يجاهدون في سبيل الله والدين والشريعة.

كان من المفروض أن يؤدي عصر النهضة والتحديث والحداثة والتقدم العلمي والتقاني وثورة التقانية والديمقراطية إلى تجديد الخطاب الإسلامي والعودة به إلى أصوله ونقائه ومقاصده، لكن الذي حصل هو السير بعكس التيار، فبدلاً من إزالة الشوائب عن أكداس اجتهاد الفقهاء وتنقية خطابهم منها حصل العكس تماماً فازدادت الشوائب واستسهل كثيرون تفسير الدين ورسم ملامح جديدة للشريعة ورفض التطوير والاعتماد في حالات كثيرة على الأحاديث الضعيفة حتى لو خالفت أحكام القرآن.

وأخذ النصوص دون الاعتماد لا على مقاصدها ولا على مصالح الناس، فصار لكل فريق اجتهاده وسياسته وإيديولوجيته ووسيلته لتطبيق هذه الأيديولوجية، وساد المطلق والإطلاق وأعطت هذه المنظمات لنفسها الحق بتكفير الآخرين مسلمين وغير مسلمين، دون الاهتمام بمدى الضرر الذي يلحق بالإسلام جراء ذلك، والمآسي التي تصيب المجتمعات العربية والإسلامية منه.

فأي هدف إسلامي يمكن أن يكون قد حققه تنظيم (فتح الإسلام) مثلاً من مهاجمة الجيش اللبناني وإشعال حرب محلية قتل فيها مدنيون وعسكريون وهُجّر عشرات الآلاف من مخيم نهر البارد في لبنان، وأي مكسب يمكن أن تحققه منظمة (جند الشام) من استهانتها بالجيش اللبناني وتفجير حرب معه قد تؤدي إذا استؤنفت إلى قتل مئات وتهجير عشرات الآلاف من مخيم عين الحلوة، وأية فائدة حققتها عصبة الأنصار من قتل أربعة قضاة في صيدا، وأي نصر حققته التنظيمات الإرهابية في المغرب من تفجيرها مقهى في الدار البيضاء، أو مثيلتها في الجزائر من تفجيرها مقرات حكومية أو اجتماعية وكذا الأمر في أكثر من بلد عربي وإسلامي.

عندما يضعف الجسم تكثر أمراضه وتفاجئه الظروف كل يوم بمرض جديد، ويبدو أن ضعف أمتنا ومرضها أتاحا لمثل هذه التنظيمات مناخاً ملائماً لتقوم وتعيش وتملأ الدنيا صخباً وضجيجاً خاصة وأن تأسيس منظمة من مثل هذه المنظمات غدا أسهل من شرب الماء فما أكثر الممولين والمزودين بالسلاح في داخل البلاد وخارجها. وهكذا فالخاسر الأكبر هو الدين الإسلامي الحنيف والعرب والمسلمين دون أن تحقق هذه التنظيمات الإرهابية ربحاً مهما كان صغيراً.

لقد قدم هؤلاء تلقائياً لأعداء الأمة العربية وأعداء الإسلام سواء اعترفوا أم أنكروا المبررات التي يرغبها هؤلاء الأعداء لاستمرار عدوانهم واستفزازهم وتشويههم للدين والقيم، وألحقوا الضرر ليس فقط بالبلدان العربية والإسلامية وإنما أيضاً بأفراد الجاليات العربية والإسلامية في أوروبا وأميركا سواء كانوا عرباً أم مسلمين، وأصبح من السهل على المعادين والموتورين أن يستخدموا عشرات الأمثلة من تصرفات هؤلاء لإثبات ما يقولون وتبرير ما يفعلون، ومع ذلك تستمر التنظيمات الإرهابية في غيها وفي اعتقادها الفاسد في أن ممارساتها مبررة شرعاً ولا نعرف في الواقع أي شرع بررها. أما آن الوقت كي تقف الأمة بمثقفيها وأحزابها ورجال دينها ومنظمات المجتمع المدني فيها بوجه هؤلاء لتضع حدوداً لانحرافاتهم؟.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)