لا تكتفي الدولة الصهيونية بالاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وتشريد أهلها وإنكار أبسط حقوقهم والاعتداء على المدنيين العزل وعلى مقدساتهم الدينية وسبل عيشهم، وغير ذلك من الجرائم التي تحرمها كل الأعراف القانونية والإنسانية، بل تضيف إلى هذا كله جريمةً جديدة تتمثل في استخدام أجساد الفلسطينيين كحقل تجارب للأسلحة الجديدة التي تطورها.
هذا ما كشفته مؤخراً تحقيقات صحفية، مدعمة بأدلة طبية وعلمية، قام بها فريق من الصحفيين الإيطاليين، الذين أعدوا فيلماً وثائقياً لمحطة "راي نيوز 24" التليفزيونية الفضائية في إيطاليا، سجلوا فيه تفاصيل مروعة عن إصابات غامضة لحقت بمواطنين فلسطينيين خلال الاعتداءات العسكرية التي شنتها الدولة الصهيونية على قطاع غزة في يوليو وأغسطس 2006 (مل فرايكبيرج، صحيفة الأهرام ويكلي، 26 إبريل 2007). وقد جاءت هذه التحقيقات لتعزز الشكوك التي طالما أعرب عنها أطباء وباحثون فلسطينيون على مدى سنوات عدة، وخاصة منذ اندلاع "انتفاضة الأقصى" في عام 2000.
وكان أطباء فلسطينيون، في غزة على وجه الخصوص، قد أفادوا بوجود جروح غريبة على أجساد كثير ممن أُصيبوا خلال عمليات القصف، وهي عبارة عن ثقوب صغيرة، لا تظهر عادة في صور الأشعة، بالإضافة إلى حروق شديدة، مما استدعى في كثير من الأحيان بتر الأعضاء المصابة. وفي الوقت نفسه، لم تكن هناك أية أدلة على وجود شظايا معدنية عادية في هذه الجروح أو بالقرب منها، مما يشير إلى أن الإصابة نجمت عن مواد أخرى. كما عثر الأطباء على ذرات مسحوق غريب على أجساد بعض المصابين وفي أعضائهم الداخلية، وبتحليل هذه الذرات لاحقاً وُجد أنها تتألف من عنصري الكربون والتنجستون (وهو العنصر المستخدم في صناعة الأسلاك الرقيقة داخل مصابيح الإضاءة). ويُعتقد أن مفعول هذا المسحوق يشبه مفعول الشظايا الصغيرة، وأنه السبب في الجروح الغريبة التي لم يُعرف لها تفسير محدد. ومما ضاعف من شكوك الأطباء أن كثيراً من المصابين قد تُوفوا بعد أيام من إصابتهم، بالرغم من بدء تماثلهم للشفاء.
وبالإضافة إلى هذه الأعراض، وجد الأطباء أن بعض الأشخاص أُصيبوا بحروق بالغة الشدة في أعضائهم الداخلية رغم عدم وجود أية إصابات خارجية، وهو الأمر الذي حدا بهم إلى القول إنها قد تكون ناجمة عن أسلحة كيماوية جديدة استخدمتها القوات الإسرائيلية.
وقد فحصت الطبيبة "كارميلا فاسكايو"، من جامعة "بارما"، العينات التي جمعها فريق الصحفيين الإيطاليين من المتفجرات التي استُخدمت في قطاع غزة، وتوصلت إلى أن مواد الكربون والنحاس والألومونيوم والتنجستون موجودة بتركيز مرتفع في هذه العينات، وانتهت في تقريرها إلى ترجيح الفرضية القائلة إن الإصابات نشأت عن متفجرات معدنية كثيفة، تُعرف علمياً باسم "دايم DIME"، هي نوع جديد من الأسلحة يُعتقد أن القوات الإسرائيلية قد استخدمتها على سبيل التجربة خلال اعتداءاتها على المدنيين الفلسطينيين.
وتجدر الإشارة إلى أن فريق الصحفيين الإيطاليين توصل إلى نتائج تؤكد أن القوات الإسرائيلية استخدمت تلك القذائف الفسفورية ضد المدنيين اللبنانيين خلال عدوانها على لبنان في صيف عام 2006. (ويُلاحظ هنا التزامن بين استخدام هذه الأسلحة في غزة ولبنان). وقد نفت حكومة الكيان الصهيوني هذا الأمر في البداية، ثم عادت وأكدت على لسان "جاكوب عدري"، وزير شؤون مجلس الوزراء، استخدام القذائف الفسفورية.
وليست هذه هي المرة الأولى التي تُوجه فيها مثل هذه الاتهامات إلى الدولة الصهيونية. ففي عام 2003، على سبيل المثال، هدد نائب الكنيست "يوسي سريد" (عن حزب ميرتس) بنشر معلومات تفيد بأن القوات الإسرائيلية استخدمت أسلحة محرمة دولياً في قصفها لمخيم النصيرات في قطاع غزة، في أكتوبر 2003، وهو القصف الذي أسفر عن مصرع 14 فلسطينياً فضلاً عن إصابة العشرات (موقع إسلام أون لاين، 20 نوفمبر 2003). وفي عام 2004، أشار عدد من الأطباء الفلسطينيين إلى أن قوات الاحتلال استخدمت نوعاً من الذخيرة الملوثة بمواد كيماوية سامة لتصفية أفراد المقاومة الفلسطينية، وهي مواد تؤدي إلى سهولة انسلاخ جلد الضحية عن الجسد بمجرد ملامسته، ومن ثم تفضي إلى الموت تدريجياً. وكان الشهيد مازن ياسين، قائد "كتائب عز الدين القسام" في قلقيلية، والذي اغتالته قوات الاحتلال في 20 مايو 2004، هو الضحية الأولى لهذا النوع من الذخيرة، حيث لم تكن الإصابة الأصلية التي لحقت به قاتلة، كما أنه لم ينزف كمية كبيرة من الدم، مما دفع الأطباء الذين فحصوا الجثة إلى القول إن الجسم قد لُوث بمادة سامة، وخاصة مع ظهور مادة بيضاء غير معروفة من قبل حول شفتيه (موقع إسلام أون لاين، 26 مايو 2004).
ويأتي استخدام هذه الأسلحة الجديدة استمراراً لنهج الدولة الصهيونية في تطوير أسلحة غير تقليدية، سواء لاستخدامها في زيادة القدرات العسكرية للكيان الصهيوني وترسيخ وجوده غير الشرعي على الأراضي العربية والتصدي لحركات المقاومة، أو لتصديرها إلى الخارج، حيث تُعد الدولة الصهيونية في مقدمة الدول المصدرة للأسلحة. وكثيراً ما تساهم صادرات الأسلحة هذه في تدعيم أنظمة قمعية موالية للغرب، كما كان الحال مع حكومة جنوب أفريقيا في فترة الفصل العنصري ومع حكومات عسكرية عديدة في أميركا اللاتينية، أو في تأجيج صراعات إقليمية يستفيد منها الغرب الاستعماري، كما هو الحال في تشاد وجنوب السودان وإثيوبيا والكونغو وغيرها.
وإذا كان استخدام المواطنين الفلسطينيين كحقل تجارب لهذه الأسلحة الجديدة أمراً منافياً للأخلاق وللقانون الإنساني الدولي، الذي يضع قواعد صارمة للتعامل في أوقات الصراعات المسلحة، فإنه ينطوي أيضاً على نظرة عنصرية فجة تعتبر "الآخر" الفلسطيني مجرد أداة استعمالية لتحقيق غرض ما، ومن ثم تجرده من خصائصه الإنسانية والتاريخية والحضارية، مما يجعل من السهل على من ينفذون هذه الأعمال، وعلى جمهور المستوطن الصهيوني بصفة عامة، تقبل فكرة التخلص من هذا "الآخر" بقتله أو نفيه أو الإبقاء عليه في ظروف غير إنسانية للاستفادة منه في أغراض علمية أو عسكرية.
وأمام هذه الحقائق المروعة التي تكشفت مؤخراً، والحقائق الماثلة التي ظهرت قبل ذلك، تبرز الحاجة الماسة إلى تحرك سريع على المستويين العربي والدولي من أجل تعريف الرأي العام بالجريمة الأخيرة، والتي هي استمرار لجرائم أخرى أوسع نطاقاً، ثم المطالبة بإخضاع الدولة الصهيونية للمساءلة والمحاسبة أمام الهيئات الدولية المعنية بالقانون الدولي وبحقوق الإنسان، باعتبار ذلك حلقة من حلقات المواجهة مع هذا الكيان، الذي لا يمكن لمخزونه من الأسلحة التقليدية أو الجديدة أن يكسبه أي قدر من الشرعية.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)