بكثير من الهدوء والعقلانية .. وحتى الواقعية، يمكن الحديث والاعتراف بان التيارات العلمانية أخطأت حساباتها خلال العقود الخمسة الماضية. هذا الخطأ يظهر اليوم بشكل واضح كنتيجة لسلسلة من التراجعات بدأت منذ عام 1967 وتطورت بشكل ملحوظ، لتحتل المراجع الدينية كافة مواقع التيارات الأخرى مع بداية القرن الجديد.

هذا الواقع لا يدفع إلى الامتعاض أو السرور، فما نقوله هنا هو إقرار بأمر حدث بعد الطفرة التي اجتاحت المجتمع في أواسط الخمسينات، وفتحت آفاقا واسعة أمام كافة التيارات الاجتماعية. وربما علينا عدم التردد في إقرار مسألتين:

 الأولى أن ظهور التيارات العلمانية ترافق بانتشار حركة التعليم الواسع والنشاط الحزبي منذ الاستقلال. لكن هذا الظهور لم يكن على حساب العامل الثقافي الأساسي للمجتمع (أي الدين). فالسمة التي ميزت تلك المرحلة هي ظهور النخب السياسية والثقافية التي حكمت الحياة الاجتماعية. لكن العوامل الثقافية الأساسية لم تتبدل بشكل جذري، على الأخص أن التيارات الجديدة انغمست في عمليات سياسية كبرى. بينما كانت التيارات التراثية تكرس السلوك المألوف للناس.

 الثاني هو النظرة التي تعاملت معها التيارات الجديدة مع العوامل التراثية وقوتها في المجتمع. فكافة الأحزاب اعتبرت أن مسألة العدالة الاجتماعية على سبيل المثال، أو حتى القوانين العصرية ربما تكون قادرة على صياغة ثقافة جديدة. والواقع ان عمليات التغير الاجتماعي ليست بهذه السهولة.

أهملت التيارات الجديدة واقع العامل الثقافي في المجتمع، وتجاهلت أهمية التعامل معه بشكل جدي. وبغض النظر عن طبيعة التعامل في تلك الفترة، لكن من المهم أن كل مجموعة كانت تحاول بناء نظرتها بشكل مستقل.

التردد الذي انتاب النخب السياسية والثقافية في الخمسينات يجب أن لا ينسحب على الزمن الحالي. وتبديل العوامل الثقافية هو استحقاق، لكنه لن يكون دون دفع العامل الثقافي الأساسي نحو الأمام. فالمرجعية التراثية تحتاج لجرأة في التعامل:

 جرأة في أنها الأقوى رغم كل المؤثرات الإضافية.

 وجرأة التعامل معها والتحرر من عقدة الخوف تجاهها أو منها.

كان متوقعا للعامل التراثي أن يعود في أي لحظة .. ومن المتوقع ان يتطور خلال السنوات القادمة .. وما يمكن فعله اليوم هو الحرص على عدم بقاء هذا العامل أسير صيغته الذاتية، بل لا بد من التفاعل معه على الصعد كافة وضمن مجال مفتوح إذا أردنا ان يكون المستقبل هو الغاية والهدف.