ما زال لبنان يعاني سياسياً واقتصادياً وأمنياً من آثار الحرب الإسرائيلية العدوانية عليه في يوليو/تموز الماضي، رغم نجاح المقاومة فيه بالتصدّي للعدوان وإفشال غاياته السياسية.
وما زالت غزّة تعاني من الحصار الاقتصادي والسياسي وتداعيات الصراعات الدموية بين "شرعية فلسطينية" تعترف بإسرائيل وقرّرت وقف الصراع المسلّح معها، وبين "شرعية فلسطينية" أخرى لا تعترف بإسرائيل وتواصل المقاومة ضدَّ احتلالها.
وقد خضعت المقاومة اللبنانية والفلسطينية إلى حملة تشويه واسعة في السنوات الستة الماضية التي تخلّلتها أحداث إرهابية دولية وغزو لأفغانستان واحتلال للعراق، إضافةً إلى الحرب على لبنان في الصيف الماضي والحروب الإسرائيلية المفتوحة على الفلسطينيين.

وقد نجحت إدارة بوش، وخلفها النفوذ الإسرائيلي، إلى حدٍّ كبير في وضع المقاومتين اللبنانية والفلسطينية في سلّة "الإرهاب الدولي" رغم التناقض في المنطلقات والأهداف والأساليب بين "حركة حماس" و"حزب الله" من جهة، وبين جماعات "القاعدة" من جهة أخرى.
وما زالت واشنطن وتل أبيب تضغطان على أطراف دولية عديدة، وأوروبية خاصّة، من أجل عدم التعامل أو الحوار مع "حماس" و"حزب الله" رغم قناعة هذه الأطراف الدولية بوقائع الفروقات مع جماعات الإرهاب.
كذلك سعت حكومتا واشنطن وتل أبيب إلى استغلال العلاقة الخاصة القائمة بين إيران و"حزب الله" وحركة "حماس" من أجل وضع المقاومتين اللبنانية والفلسطينية في خانة النفوذ الإيراني الذي يرى البعض بأنّه يشكّل خطراً على المنطقة العربية ويستوجب فرز المنطقة بين محور "قوى الاعتدال" الذي تكون إسرائيل طرفاً فيه ضدّ محور "قوى التطرّف" الذي تدعمه إيران. ولقد كان ذلك واضحاً جلياً في الصيف الماضي من خلال التحرّك الذي قادته إدارة بوش لاستثمار العدوان الإسرائيلي على لبنان بفرز المنطقة بين محور واشنطن ومحور إيران، ومن خلال تصعيد مفتعل للمناخ الطائفي والمذهبي في المنطقة بهدف عزل إيران عربياً وإضعاف "شعبية" حزب الله وحركة حماس.

كانت واشنطن وتل أبيب تراهنان (وما زالت هذه المراهنة قائمة) على أن تكون نهاية ظواهر المقاومة العربية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي على أيدٍ عربية في إطار تأجيج الصراع المفتعل بين إيران والعرب، كما هو الأمر على المستوى الدولي من خلال توظيف الحرب الأميركية على الإرهاب لعزل حركات المقاومة.
فالإدارة الأميركية تدعم حكومة السنيورة في بيروت فقط لأنّها تماشي السياسة الأميركية الآن الضاغطة على دمشق والمقاومة في لبنان.
والإدارة الأميركية تدعم الآن سلطة محمود عباس، فقط لأنّها حالياً تواجه "حركة حماس" في غزّة بعدما امتنعت واشنطن عن الدعم الفعلي للسلطة الفلسطينية منذ تشكيلها.
لكن هذه السياسة الأميركية تجاه فلسطين ولبنان لم تقنع بعد أطرافاً دولية وعربية فاعلة. فهذه الأطراف تدرك أنّ ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط الآن هو مزيج صراعاتٍ ثلاث لكلٍّ منها خصوصياته وتحالفاته:
فأولاً، هناك الصراع مع "القاعدة" وجماعات التطرّف والعنف التي يُطلق الآن عليها اسم "قوى الإرهاب". وتجتمع ضد "القاعدة" في هذا الصراع قوى دولية وإقليمية رغم تبايناتها في قضايا أخرى. فروسيا وفرنسا والصين وغيرها من الدول التي اعترضت على سياسة واشنطن في العراق، هي مع واشنطن في حربها على "الإرهاب"، كذلك هي أطراف إقليمية تعاديها واشنطن الآن كإيران وسوريا لكنّهما وقفتا مع واشنطن ضدّ "قوى الإرهاب" المرتبطة بجماعات "القاعدة" وباعتراف مسؤولين أميركيين.
وهناك تناقض فكري وسياسي أصلاً بين طهران ودمشق من جهة، وبين جماعات "القاعدة" وأمثالها من جهة أخرى.
وفي الصراع مع "القاعدة" لا يوجد تناقض في المصالح أو المواقف بين إيران والحكومات العربية كلّها.

ثانياً – هناك حرب أميركية في العراق، أدّت إلى خلط قضايا كثيرة في المنطقة وإلى تعزيز أجواء التطرّف فيها وإلى جعل العراق ساحة تنافس دموي بين أطراف محلية متصارعة ومدعومة من جهات خارجية عديدة. فأصبح العراق اليوم مزيجاً من حروب مركّبة أودت إليها خطايا السياسة الأميركية واحتلال العراق أصلاً. لكن كما هو حال تركيا الصديقة لواشنطن، نرى كذلك حال عدوتها إيران. فلا تركيا تسمح لتطورات الأوضاع في العراق بأن تشكّل خطراً على مصالحها وأمنها القومي، وهي لذلك تتدخّل حتى عسكرياً في شمال العراق، ولا إيران أيضاً المستهدَفة من إدارة بوش يمكن أن تترك العراق دون تدخّل مباشر منها خاصّةً في ظلّ التهديدات الأميركية لطهران نفسها.

في المسألة العراقية، تبرز عوامل كثيرة لا نراها موجودة أو فاعلة في قضايا وأزمات أخرى، ففي العراق خطر التقسيم الطائفي والمذهبي والإثني، وخطر امتداد التأثير الإيراني على كل منطقة الخليج، وخطر التحكّم بالثروة النفطية ومصادر الطاقة العالمية، وهي كلّها عناصر محصورة في المسألة العراقية رغم وجود ظاهرة المقاومة ضدّ الاحتلال في العراق، ورغم تحوّل العراق إلى ساحة مواجهة مع "قوى إرهابية".

ثالثاً – هناك صراع ثالث دائر في المنطقة وهو أقدم الصراعات الجارية الآن، إنّه الصراع العربي/الإسرائيلي الذي سعت إدارة بوش لتهميشه وتجاهله لصالح الصراع مع الإرهاب شكلاً، ومن أجل الحرب على العراق ضمناً. فالصراع العربي الإسرائيلي لم ينتهِ بتوقيع اتفاقيات كامب دافيد مع مصر ثم اتفاقيات وادي عربة مع الأردن ثمّ اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية. لقد كان ذلك رغبة إسرائيلية بأن ينتهِ الصراع مع العرب بعد هذه الاتفاقيات، وبأن تقوم الدول العربية (والعالم كلّه) بتطبيع العلاقات مع إسرائيل وفتح سفارات لها في العواصم العربية لمجرّد أنّها اعترفت بمنظمة التحرير (وليس بحقوق الشعب الفلسطيني) وأقامت لها إدارة "بلدية" ترعى شؤون الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة.
إسرائيل راهنت على استمرار احتلال القدس وبعض الأراضي في الضفة إضافةً إلى الجولان وجنوب لبنان دون خوف على أثر ذلك على اتفاقيات التسوية مع مصر والأردن ومنظمة التحرير والدول العربية والإسلامية الأخرى التي أقامت علاقات تجارية أو دبلوماسية معها.
لكن ظاهرة المقاومة ضدّ الاحتلال في لبنان وفلسطين أسقطت هذه المراهنة الإسرائيلية وأوجدت معادلات جديدة في المنطقة ولجمت سياسة "الانبطاح" التي سمّيت ظلماً بالواقعية. ونجحت المقاومة اللبنانية في تحرير الأراضي اللبنانية في العام 2000 ثمّ في التصدّي للعدوان الجديد في الصيف الماضي. كذلك نجحت المقاومة الفلسطينية في إجبار إسرائيل على الانسحاب من غزّة وفي إعطاء زخم للقضية الفلسطينية بعدما أثقلت اتفاقيات أوسلو كاهلها.

لذلك، فإنّه لظلم كبير لظاهرة المقاومة ضدّ الاحتلال أن يتم وضعها في سلّة واحدة مع ما تقوم به جماعات التطرّف والإرهاب في أكثر من مكان بالعالم.
كذلك، هو ظلم كبير للصراع العربي/الإسرائيلي، وللحقوق العربية في هذا الصراع، أن يتمّ وضع ظاهرة المقاومة في خانة صراع المحاور بالمنطقة أو في الجعبة الإيرانية. فالمقاومة ضدّ الاحتلال هي نهج قد يختلف لونه أو سمته العقائدية بين فترة زمنية وأخرى، لكنّه سيبقى قائماً طالما هناك احتلال وحق مغتصب. وعلى الرافضين لنهج المقاومة إثبات جدارتهم بتحصيل الحقوق من الخصوم والأعداء، وليس بتحوّلهم إلى أدوات في مواجهة حركات المقاومة!.