رسخت حرب تموز (يوليو) والموقف الأميركي منها، استراتيجية واشنطن في التعامل مع الملف اللبناني وتشعباته الإقليمية من باب الفصل بين «المعتدلين» و«المتطرفين» وتحددت أطرها وبحسب مصادر في الإدارة وخبراء مقربين منها في المرحلة التي تلت الحرب وإصرار البيت الأبيض على فك الارتباط بين الملف السوري واللبناني ودعم الحكومة اللبنانية وإغفال موضوع نزع سلاح «حزب الله». غير أن الحرب أوجدت مجموعة تحديات جديدة لهذه الاستراتيجية، من الأزمة التي تعترض الحكومة اللبنانية الى ظهور خلايا لتنظيم «القاعدة»، في شكل قد يجبر واشنطن على مراجعة أولوياتها.

ويقول المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأميركية والباحث الحالي في الشؤون اللبنانية من معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى ديفيد شانكر لـ «الحياة» أن حرب تموز أوضحت معالم الاستراتيجية الأميركية حيال لبنان وعلى الصعيد الإقليمي، ان من ناحية التحالفات التي برزت خلال المواجهة والتي كرست دور «المعتدلين» المدعومين من واشنطن وعلى رأسهم حكومة فؤاد السنيورة، و «المتطرفين» المتمثلين بإيران وسورية ومنظمة «حزب الله». وعبر الرئيس بوش عن هذا التوجه المدعوم من مختلف أركان الإدارة في الخارجية ومكتب نائب الرئيس في خطابات عدة، أبرزها أمام الجمعية العامة في الأمم المتحدة السنة الماضية وفي خطاب حال الاتحاد أمام الكونغرس أول عام 2007».

ويقول شانكر إن المعلومات التي وصلت البيت الأبيض حول «قيام سورية بنقل وتزويد «حزب الله» بأسلحة بعضها روسي الصنع» عززت موقف الداعين في الإدارة الى استكمال عزل سورية ورفض أي تسوية معها على حساب لبنان، الذي ترى فيه الإدارة وبعد «ثورة الأرز» وخروج القوات السورية في نيسان (أبريل) 2005 أحد «أبرز إنجازات» الديبلوماسية الأميركية في دعم الديموقراطية في المنطقة. وبرزت خلال الحرب وفي الفترة التي أعقبتها محطات رئيسة عكست هذا الدعم، مثل «مؤتمر باريس 3» والمساعدات الأمنية والاقتصادية التي قدمتها الإدارة الأميركية للبنان. ويكرس هذا النهج التزام واشنطن باعتماد فك الارتباط في التعامل بين لبنان وسورية وإدارة الملف اللبناني منفرداً. وتتناقض هذه السياسة مع ممارسات الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ اتفاق الطائف (الرئيسان جورج بوش الأب وبيل كلينتون).

وتؤكد مصادر رسمية أميركية أن واشنطن ترفض رفضاً قاطعاً أي تسوية مع سورية في موضوع السلام مع إسرائيل أو العراق على حساب لبنان، ويقول مسؤول أميركي رفيع المستوى لـ «الحياة» إن واشنطن ملتزمة دعم الحكومة اللبنانية برئاسة السنيورة «الى حين انتهاء ولايتها الدستورية»، وأنها «لا ترى سبباً لمنعها من الاستمرار في مهماتها اليوم»، مضيفاً أن تصرف الحكومة السورية «لم يتغير عموماً» في لبنان منذ حرب تموز السنة الماضية سواء لناحية «نقل أسلحة الى «حزب الله» أو العمل على زعزعة استقرار لبنان». وعلى رغم فشل الحرب في القضاء على بنية «حزب الله» العسكرية والذي تعتبره واشنطن «منظمة إرهابية»، يشير شانكر الى أن الولايات المتحدة ترى في انتشار قوات الـ «يونيفيل» والجيش اللبناني في الجنوب «تطوراً إيجابياً» يعزز «سلطة الدولة اللبنانية» ويهدد مبدأ الدويلة داخل الدولة لـ «حزب الله». إلا أن هذه المعادلة نفسها (تقوية سلطة الدولة اللبنانية) دفعت واشنطن وكما يعتبر شانكر الى ترك مسألة نزع سلاح «حزب الله» الى الحكومة اللبنانية والاعتراف بحقيقة أن الحزب «له دور أساسي في السياسة الداخلية اللبنانية» وبالتالي خفت الصوت الداعي الى تطبيق القرار 1559 وزاد الحديث عن القرار 1701.

ويختلف الباحث في مجلس العلاقات الخارجية والمستشار الحالي للإدارة فالي نصر مع قراءة شانكر، ويقول لـ «الحياة» إن تجنب واشنطن استحضار موضوع سلاح «حزب الله» بكثرة في الفترة الأخيرة، يعود بالدرجة الأولى الى التركيبة الجديدة على الساحة اللبنانية التي خلفتها حرب تموز، وتقويتها لخصوم واشنطن من جهة (حزب الله) وإظهار ضعف حلفائها. ويشير نصر الى أن خطأ واشنطن الإقليمي كان في «إساءة تقدير» قوة خصومها وتحديداً «حزب الله» في لبنان و «حماس» في الأراضي الفلسطينية وتنظيم «القاعدة» في العراق، وأنتجت مرحلة ما بعد الحرب في لبنان، موجة جديدة من التحديات «تتعدى مسألة حزب الله» وتفرض إعادة قراءة أميركية للأولويات السياسة هناك.

ويرى نصر أن ظهور خلايا لـ «القاعدة» في المخيمات الفلسطينية والتفجير الأخير الذي استهدف قوات الـ «يونيفيل»، يمثل إنذاراً مهماً للسياسة الأميركية في المنطقة، ويتطلب دراسة جدية لأسلوب التعامل مع هذه التهديدات قد تضطرها للانخراط في حل مع سورية لتفادي انفجار الوضع هناك. ورأى نصر أن انتشار عناصر «القاعدة» في شمال لبنان تسارع في السنتين الأخيرتين، وأن أحد الأسباب هو حرب تموز الصيف الماضي والنموذج الذي قدمه «حزب الله» في مواجهة إسرائيل. ورصدت صحيفة «واشنطن بوست» تنامياً في عدد التنظيمات المتطرفة في شمال لبنان وازدياد حركة تنقل هؤلاء بين العراق ولبنان. وينوّه نصر بالدور السوري في مساعدة واشنطن في جمع معلومات ثمينة عن «القاعدة» قبل الحرب في العراق وأن دمشق قدمت لـ «سي آي إي» كمية مفيدة من المعلومات حول خلايا في ألمانيا وساعدتها في الوصول الى رؤوس كبيرة في التنظيم.

وفيما تؤيد قيادات سياسية خارج الإدارة انفتاحاً أكبر على سورية طبقاً لتوصيات لجنة بيكر هاميلتون حول العراق، تؤكد هذه القيادات وبينها الأبرز في الحملة الرئاسية للعام 2008 (السناتور هيلاري كيلنتون عن الديموقراطيين ورودي جولياني عن الجمهوريين) ضرورة رفض أي تسوية حول الموضوع اللبناني.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)