المُدهش أن الضحية الكردية الشابة دعاء لم يشفع لها اسمها للنجاة بروحها البريئة، وتجنيب عظامها الطرية عملية فتك وحشية. لم تطلق الصراخ استغاثة للبقاء على قيد الحياة بمواجهة موت محقق، بل آثرت الصمت ربما تجنباً لتوسل جموع المئات من أشباه "الرجال" وهم يستخدمون عضلاتهم "الذكورية" بكل بطولة واستعراض أثناء رجمها حتى الموت تحت شواهد عدسات هواتفهم النقالة وضحكاتهم المجلجلة!!

"مَنْ كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر"..ما أحوجنا تلك اللحظة إلى هذه الحكمة البليغة للأنبياء دفاعاً عن الضحايا، ولكن أية معجزة الآن تأتي باليسوع المسيح عليه السلام للوقوف مجدداً بوجه الجنون الطاغي الذي فاق الحدود أثناء انقضاضه على صبية بريئة بتهمة مزيفة تدعي رغبتها تغيير دين طائفتها "اليزيدية" إلى الاسلام حسب دين خطيبها الشاب الكردي المسلم. واليزيدية دين قديم للاكراد وهو خليط من الديانات المختلفة ولدى أتباعه طقوس خاصة به. يتشكل اليزيديون من ست طبقات اجتماعية يحظر الزواج عموديا فيما بينها ويسمح فقط الزواج أفقيا داخل الطبقة، ولا يتجاوز أعدادهم في شمال العراق ربع مليون نسمة رغم أنهم تأسسوا منذ 800 سنة على يد السوري عدي بن مسافر، ويقال أنهم تعرضوا لنحو سبعين مذبحة في تاريخهم!

دعاء أسود دخيل (17 سنة) ولدت وعاشت في بلدة بحزاني شمال شرق مدينة الموصل العراقية، ويسجل لبلدتها أنها عاصمة للثقافة القومية الكردية. كل الجريمة التي ارتكبتها الصبية أنها أبدت استعدادا لخطبة شاب من قوميتها الكردية لكنه يدين بالاسلام، فانهالت المصائب على رأسها بتهمة جاهزة: تغيير ديانة طائفتها.

إلتَجَأتْ اثر تهديدها بالقتل لمنزل شيخ وجيه في المنطقة، نجح في حمايتها مؤقتاً لكنه اضطر لتسليمها إلى ذويها بعد تعهد منهم بعدم ايذائها. عندما غادرت البريئة بيت اللجوء كانت قبضايات "الرجولة" تحفر لها قبراً، وانقض عليها المئات بالضرب والتنكيل تحت صيحات الثأر للطائفة بعيداً عن التمسك بالهوية القومية التي تتعرض للمهانة والذل تحت الاحتلال، وأيضاً على ايقاع تكنولوجيا العدسات والميكروفونات المثبتة في الأجهزة الخليوية ليكتمل مشهد الجريمة بالصورة والصوت. الصور البشعة للجريمة باتت تتناقل باستباحة بين خطوط الديجتال فيتساقط منها العار والجنون يكللهما صيحات "الانتصار" على ساعد دُفن غضاً تحت التراب.. لكن الروح البريئة تطوف سماء المكان وتلقي على الأرض السؤال: مَنْ دفن مَنْ؟ لقد انتصرت دعاء بموتها على شرف مقنع للرجولة في بلاد منكوبة بكل شيء، بل فتحت للقيم المزيفة قبراً حقيقيا وليس رمزياً. طوبى لك يا دعاء وأنت تحرقين أقنعة "الرجولة" عن الوجوه المتوحشة الكاسرة المتنكرة في ملامح انسان..طوبى لك وأنت تغادرين في رحلتك الأخيرة صامتة دون صراخ أو استغاثة.

رحلت الشابة دعاء مع بدء احتفالات أعياد "نيروز" الكردية الشهيرة التي تطل مع الربيع، وعشية الاحتفالات الشعبية الواسعة التي تشهدها المدن والقرى في شمال العراق، في "نيروز" يشعل الأكراد النار باعتباره أحد أبرز طقوس الاحتفالات تعبيرا عن رفض الظلم. تروي الاسطورة الكردية التاريخية أن رجلا تعرض لظلم فادح على أيدي حاكم جبار عندما أمر بخطف أبنائه وحجزهم قبل تقديمهم ولائم في المعبد. تمرد الرجل وهرب بأبنائه إلى التلال المجاورة وأشعل النار على قمم الجبال رافضاً جبروت الحاكم ومتمردا على سلطاته المطلقة..ومنذ ذلك التاريخ يشعل الأكراد النار في أعياد "نيروز" تحدياً للاضطهاد وانتصاراً للمضطهدين.. دعاء التي قتلت ظلماً بل غدراً تشعل روحها النار الآن على تلال جبال كردستان المرتفعة؟ ألمْ تُعد حكاية دعاء أساطير الحاكم المستبد الذي ينكل بشعبه تحت ادعاءات واهية بتنفيذ تعاليم المعبد؟ هل اختلف سلوك الدهماء التي طحنت عظامها عن عقلية المستبد الذي يقرر التهمة وطبيعة المحاكمة وطريقة الحكم..لم تسقط دعاء مدرجة بدمها نتيجة حظها السيء بالتباس الهوية وتداخلها، بل بفضل نزعات فلسفية ذكورية سلطوية تتهم وتحاكم ثم تنفذ الأحكام بلا أي وازع أخلاقي وتحت مسميات أسطورية..برحليها الجنوني "المتلفز" على الشبكات العنكبوتية، ولا أنصحكم بمشاهدة رابط الشبكة لقسوته المفرطة، أشعر أكثر من أي وقت مضى برمزية تعدد الهويات وتباين الثقافات..كيف يكون المرء منكوباً ويمتلك هامشاً كبيرا للتضامن مع الضحايا مهما تغيرت هوياتها.