أفضل ما صدر عن الجانب الإسرائيلي تعليقاً على ما حدث في قطاع غزة من اقتتال داخلي بين حركتي «فتح» و «حماس»، ما قاله يوسي ساريد، الرئيس السابق لحزب «ميرتس» اليساري الإسرائيلي، إذ وصف تلك الأحداث بأنها كمن أطلق الرصاص «على رأس الشعب الفلسطيني وتسبب بأضرار للنضال الوطني بشكل غير مسبوق عجزت إسرائيل عن فعله طيلة عقود». ويفهم من هذا الكلام خطورة الاقتتال الفلسطيني على القضية الفلسطينية، وأنه حقق لإسرائيل ما عجزت عن القيام به في الماضي. ولكن ومن جانب آخر، يبدو أن ساريد برأ اسرائيل مما حدث بشكل غير مباشر، وكأنها كانت بعيدة عن التخطيط للاقتتال الفلسطيني، علماً أنها لعبت دوراً مهماً وبوسائل مختلفة طيلة السنوات الماضية، لخلق الفتنة داخل الساحة الفلسطينية، ضمن خططها الهادفة إلى القضاء على المشروع الوطني الفلسطيني. وحسب ما قاله الاستراتيجي كلاوس ويتز فإن «أعلى مراتب النجاح العسكري يتم تحقيقها عندما يبلغ المرء أهدافه من دون الاستعمال الفعلي للقوة». وهذا ما فعلته إسرائيل من استعمال شتى الطرق لتحقيق أهدافها، بما فيها استعمال القوة وتوظيف عناصر الخلافات والتناقضات في الساحة الفلسطينية لصالحها. واستطاعت أن تقسم الشعب الفلسطيني وأرضه وقضيته. وهي التي حولت طائفة دينية متناثرة في بقاع الأرض، إلى شعب واحد يسير خلف الحركة الصهيونية وإسرائيل، إلى جانب أنها أوقعت حركتي «فتح» و «حماس» في مأزق، من الصعب الخروج منه بسبب التداعيات التي أفرزها بعد سيطرة حركة «حماس» على قطاع غزة.

ولقد سعت إسرائيل منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى، إلى التعامل مع النضال الفلسطيني، ليس كنضال شعب خاضع للاحتلال ويناضل لتحقيق أهدافه الوطنية، بل كأفراد تقودهم تنظيمات «إرهابية» متفاوتة في استعداداتها وأهليتها في قيادة الشعب الفلسطيني. وجزأت الجغرافيا الفلسطينية بين الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، والضفة الغربية وقطاع غزة والقدس. ووضعت أكثر من تسعين حاجزا أمنياً، تفصل بين المدن والقرى الفلسطينية. كما جزأت الفلسطينيين بين فلسطينيي الداخل والخارج، وبين معتدلين ومتطرفين، وبين «فتح» و «حماس»، وبين الشرعية الفلسطينية ومن تعتبرهم خارج الشرعية. وحتى في تعاملها مع السجناء الفلسطينيين، فقد ميزت بين من هم من التنظيمات الفلسطينية المعتدلة كـ «فتح» والسجناء من التنظيمات التي تعتبرها متطرفة كـ «حماس» ورفعت شعار التخلص من قطاع غزة، والاحتفاظ بالضفة الغربية، إلى حد تمني اسحق رابين رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق أن يبتلع البحر القطاع ومن فيه من الفلسطينيين. وحاولت أن تفصل مصير القطاع في مفاوضات التسوية مع منظمة التحرير الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو، عن مصير الضفة الغربية، ونادت بغزة أولاً. ومن ثم وافقت حكومة شارون على الانسحاب الأحادي من قطاع غزة، قبل نجاح حركة «حماس» في الانتخابات التشريعية، من دون التنسيق مع السلطة الفلسطينية في رام الله. وكأن ما يحدث في القطاع منفصل عن قيادة السلطة الفلسطينية وعن مسؤولياتها. وعندما فازت حركة «حماس» في الانتخابات، مارست مع الولايات المتحدة الضغط على السلطة الوطنية الفلسطينية وحركة «فتح»، لكي لا تشارك في حكومة الوحدة الوطنية التي اقترحتها «حماس» مباشرة بعد نجاحها. واستطاعت أن تحقق ما أرادت، برفض حركة «فتح» مشاركتها في الحكومة الأولى التي تشكلت العام الماضي. ويقال إن رئيس الحكومة الإسرائيلية أيهود أولمرت انتقد بشدة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، لموافقته على تشكيل حكومة الوحدة الوطنية بعد اتفاق مكة.

ومن أوجه الممارسات الإسرائيلية الأخرى في ازدواجية التعامل مع الفلسطينيين، عرض أولمرت على الرئيس الفلسطيني محمود عباس بمنح نشطاء حركة «فتح» الذين تطاردهم إسرائيل في الضفة الغربية الأمان، وأن تتوقف الاستخبارات الإسرائيلية عن مطاردتهم، مقابل أن يتنازلوا عن أسلحتهم، بهدف تشجيع الأجهزة الأمنية ونشطاء حركة «فتح» وإبعادهم عن مساعدة أنصار «حماس». وكان آخر التمييز في التعامل الإسرائيلي مع الأسرى الفلسطينيين، وعد أولمرت لعباس، في مؤتمر شرم الشيخ الأسبوع الماضي، بأن حكومته وافقت على إطلاق سراح 250 سجيناً من حركة «فتح»، من دون ذكر للأسرى الفلسطينيين من التنظيمات الأخرى، كالجبهة الشعبية وغيرها.

وسعت إسرائيل إلى تعبئة رأي عام دولي ضد حركة «حماس» بصفتها تنظيما «متطرفا وإرهابيا» يرفض الاعتراف بها، وأن «حماس» تتحمل مسؤولية أعمال العنف وعدم الاستقرار في قطاع غزة، بحجة أنها اختارت القيام بالعمليات الاستشهادية وإطلاق الصواريخ على سيديروت والاستمرار في المقاومة، كوسيلة لتحقيق أهدافها السياسية وبالتالي تكون قد أخرجت نفسها من دائرة المشاركة السياسية حسب المفهوم الإسرائيلي. وحاولت إضعاف وعزل «حماس» في الشارع الفلسطيني.

ومن جهة أخرى، تساند الولايات المتحدة الموقف الإسرائيلي في محاصرة «حماس» وأنصارها في الأراضي الفلسطينية، فقد أعلنت عن استعدادها لتقديم المساعدات الاقتصادية والخدمية للفلسطينيين في الضفة الغربية التي تسيطر عليها «فتح»، وإبقاء فلسطينيي قطاع غزة تحت الحصار والحرمان، هادفة من ذلك الى تقديم حوافز للمعتدلين الفلسطينيين، ومعاقبة من تعتقد أنهم من المتطرفين المستمرين في مقاومتها. وهذا الأمر أدى إلى زيادة الخلافات في الساحة الفلسطينية، لأن البعض فقد بوصلة اتجاه العمل الوطني، ولم يعد قادراً على التمييز بين ما هو ضار وما هو نافع بالنسبة للقضية الفلسطينية.

وتأكيدا على الدور الإسرائيلي - الأميركي في المأزق الفلسطيني، نشرت صحيفة «يونجافليت» الألمانية في عددها بتاريخ 14/6/2007 تقريراً لمعلقها السياسي فولف راينهارت قال فيه إن إدارة الرئيس جورج بوش خططت منذ فترة طويلة لتفجير الأوضاع الداخلية الفلسطينية، وتحريض تيار موال لها داخل «فتح» على القيام بتصفيات جسدية للقادة العسكريين في حركة «حماس». وهذا الكلام يؤكد ما تحدث عنه الجنرال الأميركي كيث دايتون مسؤول الاتصال العسكري الأميركي المقيم في تل أبيب، في جلسة استماع لجنة الشرق الأوسط بالكونغرس الأميركي في شهر أيار (مايو) الماضي، وقال فيها ان بلاده تلعب دورا مؤثرا وقويا في الأوضاع الداخلية الفلسطينية، وتوقع دايتون انفجار الوضع قريبا في قطاع غزة. وقال إن وزارة الدفاع الأميركية والاستخبارات المركزية ألقتا بثقلهما إلى جانب حلفائهما، وتقومان بتعبئة الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة للسلطة الفلسطينية ضد «حماس».

لا شك أن ما حدث في قطاع غزة لم يكن متوقعا حدوثه بهذا الشكل العنيف، لولا التدخل الإسرائيلي والأميركي المسبق في تذكية الخلافات بين حركتي «فتح» و «حماس» في الأشهر الماضية منذ نجاح الأخيرة في الانتخابات التشريعية. وهذا التدخل سيستمر في الأيام القادمة في حال عودة الحوار بين الفريقين. ولهذا لا بد من عزل أي تدخل خارجي في الحوار الفلسطيني القادم، وأن تكون الدول العربية المعنية، التي يهمها عودة الحوار الفلسطيني، هي التي تضمن نجاح هذا الحوار، بعيداً عن أي ضغوطات خارجية، لا تهمها المصلحة الوطنية الفلسطينية.

بعض المثقفين العرب يسهل عليهم دائماً القول إنهم ضد نظرية المؤامرة في تسيير الأحداث في الوطن العربي. ألم يكن ما حدث في قطاع غزة من اقتتال فلسطيني، بتخطيط خارجي، قمة المؤامرة التي شارك فيها البعض؟

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)