بدت فكرة مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط باهتة ومبهمة عندما استعادها جورج بوش الابن، في ظرف تنحو فيه قنوات التسريب أو الترجيح الى الايحاء بالتعادل بين كل حظوظ الضربة العسكرية والانفراج السلمي في ما عنى الملف الايراني، وكذلك في ما عنى امكان انبعاث كل من بعدي المواجهة أو التفاوض بين اسرائيل وسوريا. فهل، بالفعل، ثمة أجواء توحي بأننا في معرض «التخيير الأخير» بين هذه الدار الدنيا أو بين الدار الآخرة، وهل ثمة من يملك بالفعل مثل هذا التخيير لهما، سواء في الادارة الأميركية أو في المؤسسة الحاكمة في اسرائيل؟
واذا تجاوزنا اعادة تفضل الرئيس الأميركي بتكرار فعل ايمانه بدولة فلسطينية غدت كما النكتة، إن في خطابه وإن على أرض الواقع، فما القول في ما يرجح على أنه عود للجّد في ما عنى الملف السوري، وهو الأقل رهينة من السباق الايراني نحو الخصوبة النووية، ذلك أنه ملف أقفل حرباً مع اسرائيل بعد حرب تشرين واتفاق فصل القوات، وأحتبس سلماً بعد خيبة شيبرزتاون ثم لقاء جنيف.

والحال أن دولة اسرائيل تجد نفسها في وضعية غير مريحة تماماً بعد أن تظهرت نتائج انسحابيها الأحاديين في كل من جنوب لبنان وغزة تمكيناً لحزب الله ولحماس.
وتجد سوريا وضعية مريحة للغاية، ان من خلال نفاذها الى مكامن التصدّع اللبناني، أو من خلال تخلصها من مرجعية حركة فتح فلسطينياً. لكن هل يكفل هذا «التكبيل الجزئي» أو حتى «الطيفي- المعنوي» لاسرائيل الطريق نحو قفزة فجائية في ما عنى المسار السوري الاسرائيلي، وأليس غريباً أن تستوي ترجيحات القفزة نحو «الحب» أو نحو «الرعب» الى هذه الدرجة، في حين أن الجميع يعلم أن لا أنور السادات يتكرّر مرتين، وكذلك اسحق رابين، وأن وضعاً غامضاً بين سوريا واسرائيل يبقى أفضل استراتيجياً لكل منهما، الا اذا كنا أمام ورشة اقليمية شاملة، وهذا ما ليس بالمتسع تقديره.
توحي بعض التحليلات المتناقلة بأن سوريا هي اما عشية تأديب دولي لها واما عشية تكريم دولي لها. في حين أنّ الميدان أقرب الى أن يوحي بالركود وعدم الجهوزية لهندسات جذرية للخيارات المنسوجة منذ سنين. مع ذلك، وبما أن حد الكتابة هنا هو البحث عن مسند يمكن الاتكاء عليه في كل هذه الفوضى، فلا بدّ من الدفاع عن فكرة أن السلام السوري الاسرائيلي يبقى المدخل الملكي لحل عدد كبير من قضايا المنطقة، وهذه فكرة تتطلب الى حد بعيد تجرّداً عن متاهات الأزمة الداخلية اللبنانية، وعن الحرب اللبنانية السورية التي يرى قسم كبير من اللبنانيين أنها ناشبة فعلاً في نهر البارد منذ شهرين. في الوقت نفسه، فإن التحلي بالواقعية - والأخيرة هي في النهاية نزعة محافظة عادة ما تخطئ ما يختزنه الواقع من احتمالات ومفاجآت، وتتعثر في استباق الأحداث - انما يعود لينبهنا الى ان صعوبة تصور أي خريطة طريق ممكنة لهذا المدخل الملكي لحل مشكلات المنطقة. لا ريب أن السلام السوري الاسرائيلي هو الحل، لكن كيف يكون هذا السلام ممكناً؟
في الواقع، يبدو كل سلام بين دولتين متحاربتين أو متعاديتين مستحيلاً قبل اتمامه. لكن ميزة الملف السوري الاسرائيلي منذ السبعينيات أنه كان ينضح بالعكس، فيوحي في كل منعطف بأنه أقرب ما يكون الى الانجاز، وأنه كما سينا كما الجولان في نهاية المطاف، أو أن ثمة وديعة ولا بد من أن يؤسس عليها. ومع أن الهضبة السورية محتلة منذ ما يزيد عن أربعين عاماً، فانه غالباً ما شغلت هذه الأعوام بتقديرات وتحليلات توحي بأن السلام قاب قوسين أو أدنى. يمكن فعلاً كتابة تاريخ كامل من الرهانات على هذا السلام، قبل أن يفضل الاسرائيليون اعطاء الأولوية للمسار الفلسطيني بعد ذلك، ثم بعد أن أعطوا الأولوية لهدر الدم الفلسطيني من جديد، ثم اعادة هدر الدم اللبناني. أما سوريا فإنها منذ السبعينيات ثائرة على هدي مرويتين أساسيتين، الأولى بشأن الاستعداد الدائم للمنازلة القتالية والثانية تشدد على أن السلم قاب قوسين. لكن عــادة ما كــان يجري التداول بين هاتيــن المرويتــين، أما الآن فيجري الادغام الزمني بينهما، وهذا الادغام ان أفاد أحداً الى الساعة فــإنه كثــيراً ما يفيد «ثقافة الممانعة» وثقتها بما «تنجزه»، بحيث جعلها تجمع في تقديم نفسها بين امتداح ذاتها لأنها مبدئية وامتداح ذاتها بدعوى أنها براغماتية.

مصادر
السفير (لبنان)