استيقظت إدارة بوش الآن على أهمية المؤتمر الدولي حول المسألة الفلسطينية بعدما كانت هذه الإدارة في سبات عميق طيلة السنوات الست الماضية. ربما يصح هذا التشبيه أيضاً إذا اعتبرنا أن ما حدث ويحدث في العراق هو بمثابة كابوس يومي تعيشه هذه الإدارة التي أغشت بصرها أضغاث أحلام بشرق أوسطي جديد على قاعدة احتلال العراق والمراهنة على قوة الحليف الإسرائيلي ضدَّ المقاومتين اللبنانية والفلسطينية.

إن الدعوة لمؤتمر دولي جديد بشأن الصراع العربي الإسرائيلي هي صرخة قديمة متكررة لم تجد سابقاً آذاناً صاغية في واشنطن، صرخة أطلقها الأوروبيون أكثر من مرة وكذلك العرب منذ إعلان مبادرة القمة العربية في بيروت في العام 2002، ودعمت الدعوة روسيا والصين ودول أخرى فاعلة في مجلس الأمن، ورغم كل ذلك تجاهلت إدارة بوش الأمر إلى حين إصدار توصيات مجموعة "بيكر/هاملتون" التي كانت جرس الإنذار لإدارة خسرت الرأي العام الأميركي وفشل حزبها في انتخابات نوفمبر الماضي.

إذن، دعوة بوش الآن لمؤتمر دولي هي دعوة بحكم الاضطرار، ونتيجة فشل ذريع في سياسة الإدارة تجاه العراق وعموم منطقة الشرق الأوسط. وهذا يعني احتمالات التسويف والتوظيف المؤقت للمؤتمر أكثر من كونه جدَّية أميركية في إقامة دولة فلسطينية أو تسوية الصراع العربي الإسرائيلي على أسس عادلة وشاملة لكل الجبهات والأطراف.

إنَّ إدارة بوش سارت في السنوات الماضية كلّها على طريق مسدود، وهاهي الآن تختار التراجع البطيء لحفظ ماء الوجه، ولمراعاة مصالح داخلية أميركية تقف مع هذه الإدارة وتخاف على مستقبلها بعد انتهاء حقبة بوش. فالضغط الداخلي الأميركي هو ليس من الحزب الديمقراطي أو الرأي العام الأميركي فقط، بل هو أيضاً من داخل أوساط الحزب الجمهوري ومن مراكز فاعلة في الحياة السياسية والاقتصادية الأميركية.

ويبدو من واقع حال إمكانات وظروف الإدارة الأميركية، والأطراف التي تستهدفها هذه الإدارة في منطقة الشرق الأوسط، أنّ التفاوض هو الخيار الأفضل المتاح الآن أمام الجميع من أجل تحقيق تسويات ربما تحقّق "سلاماً مؤقتاً" بينها، في إطار مناخ دولي وإقليمي مناسب لتراجعات متبادلة ولتنازلات ومكاسب على مستوى كل طرف.

فالمراهنة الأميركية الآن هي إمّا على انضمام إيران وسوريا إلى مطبخ إعداد التسويات (بشروط أميركية)، أو على عزل طهران ودمشق (أو إحداهما!) عن طريق مؤتمر دولي معنيّ به حلفاء رئيسيون على المستويين الإقليمي والدولي.

إن خيارات الحرب والتصعيد العسكري مع إيران وسوريا قد سقطت على الأرجح، كذلك المراهنة على دور إسرائيلي جرت تجربته وباء بالفشل من خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان في الصيف الماضي. الأمر نفسه تكرّر تجاه الفلسطينيين ومحاولة عزل حكومة "حماس" قبل التوقيع على اتفاق مكة.

إن المؤتمر الدولي سيتمحور على الملف الفلسطيني، لكنه سيعتمد أيضاً على صيغة "المبادرة العربية للسلام" من أجل البدء في مفاوضات تحقق تسوية مع إسرائيل على الجبهتين السورية واللبنانية وتوقيع اتفاقات لاحقاً كمحصّلة لانسحاب إسرائيلي من الجولان ومزارع شبعا اللبنانية. كذلك، سيكون المؤتمر الدولي مناسبة للاتفاق على صيغة "الدولة الفلسطينية" وعلى انسحابات إسرائيلية من بعض مناطق الضفة الغربية وعلى استئناف المساعدات الدولية للسلطة الفلسطينية، وتحويل القضايا العالقة (الحدود والقدس وحقّ اللاجئين بالعودة) إلى مفاوضات لاحقة برعاية دولية وعربية بعدما تكون الاتفاقات مع إسرائيل قد شملت سائر الجبهات في حال حصول اتفاق إسرائيلي/سوري حول الانسحاب من الجولان!

وستكون أمام اللجنة الرّباعيّة الدولية (وممثلها طوني بلير) فرصة من الزّمن قبل المؤتمر الدّولي للتّفاوض مع الأطراف المعنيّة من أجل ضمان نجاح المؤتمر وتسهيل عمل السّلطة الفلسطينيّة والمفاوضات بينها وبين إسرائيل وآليات إعلان الدّولة الفلسطينيّة.

إنَّ الحملة الأميركية على سوريا وإيران و"المنظّمات الإرهابيّة" (على حسب تعبير واشنطن) تحقق مناخاً سياسيّاً يفيد التحرّك الأميركي في كل المنطقة وحول قضايا مختلفة. لكن أيضاً، فإن كتلة "المحافظين الجدد" في الإدارة الأميركيّة، وفي مقدّمتها نائب الرّئيس تشيني، تعاني الآن من ضعف كبير في إقناع الأميركيين بجدوى أجندتها الدّوليّة، وهي موضع انتقاد حتّى من رموز بارزة في التّيار الأميركي المحافظ وفي الحزب الجمهوري نفسه. ولقد كانت الحرب في العراق، وما زالت، هي أبرز مثال على فشل أجندة هذا التّيّار، وبالتّالي فإنّ استمرار تقمّص دور "الكاوبوي" الأميركي في إدارة شؤون العالم، سيدفع إلى مزيدٍ من الانحسار السياسي لهذا التّيّار وللحزب الجمهوري في الحياة السياسيّة الأميركيّة.

إنَّ التركيز الأميركي على "الجبهة الأمامية" – أي العراق- لا يعني عدم وجود " جبهات" أخرى مفتوحة يتمّ ربطها جميعاً في حربٍ واحدة تقودها واشنطن الآن من أجل محاولة حرمان إيران من التواصل مع الحلفاء القدامى في سوريا ولبنان وفلسطين، وإضعاف نفوذها مع الحلفاء الجدد في العراق، وتقليص علاقاتها مع دول المنطقة.

وبغضِّ النظر عن تفاصيل المكان والزمان، فإنَّ المؤتمر الدولي القادم حول الشرق الأوسط أصبح محسوماً انعقاده كمخرجٍ عملي من الأزمة التي تلفّ عنق الأوضاع الفلسطينية.

وسيجد في هذا المؤتمر كلّ طرفٍ من الأطراف المعنيّة بحضوره، ما يمكن اعتباره تجاوباً نسبياً مع طروحاته في هذه المرحلة.

ففي المؤتمر الدولي القادم مجموعة من القضايا التي تجعل من الصعب الاعتراض عليه إقليمياً أو دولياً. وسوف تحرص الوزيرة رايس – وكذلك ممثل اللجنة الرباعية بلير - على إظهار هذا الجانب المشجّع لكلِّ الأطراف لدى تحركهما القادم في المنطقة.

ومن الواضح الآن، أنَّ واشنطن هي الداعية للمؤتمر الدولي وبأنَّها ستسوِّق فكرة المؤتمر بشكلٍ مُرضٍ لكلّ طرف. فواشنطن تُظهرعبر فكرة المؤتمر ترحيبها بمشاركة الآخرين معها في رعاية خطوات التسوية (الأمم المتحدة – أوروبا – روسيا- دول عربية)، وواشنطن سوف تقول للعرب إنَّهم لطالما طالبوا بمشاركة قوى دولية أخرى وبالأمم المتحدة في رعاية عملية السلام، وهاهو المؤتمر القادم يشكّل استجابةً لهذا المطلب، وبأنّ المؤتمر هو القادر على التعامل مع مبادرة القمّة العربية في بيروت.

أيضاً، تريد واشنطن من المؤتمر مشاركة عربية ودولية في تغطية ودعم القرارات التي تأخذها السلطة الفلسطينية بوقف الانتفاضة الفلسطينية بشكلٍ كامل، وبمنع أيَّة عملياتٍ فلسطينية ضدَّ إسرائيل، وبوقف كافَّة أشكال الدعم السياسي والمادي (العربي والدولي) لأيِّ طرفٍ فلسطيني يريد الاستمرار في المقاومة المسلّحة.

تريد واشنطن إعادة إحياء اللجان واللقاءات الإقليمية التي كانت تحدث بعد مؤتمر مدريد من أجل إقامة "علاقات طبيعية" بين العرب وإسرائيل، وإعادة الحياة إلى خطوات "التطبيع العربي" مع إسرائيل بشكلٍ شامل الآن لكلِّ الدول العربية اعتماداً على قرارات قمَّة بيروت التي فسَّرتها واشنطن بأنَّها استعداد شامل للتطبيع مع إسرائيل.

تريد واشنطن إعلان الاتفاق على قيام "دولة فلسطينية" تنفيذاً لما طالب به الرئيس الأميركي بوش لكن من خلال أسلوب "الدولة على مراحل"، أي البدء في قيام الدولة الفلسطينية على المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية ثمَّ توسيع دائرة هذه الدولة مستقبلاً من خلال المفاوضات مع إسرائيل.

في محصّلة الأهداف الأميركية من المؤتمر الدولي، نجد أنَّ واشنطن تراهن على مدخلٍ واحد لولوج هذا المؤتمر، هو مدخل وقف المقاومة الفلسطينية بشكلٍ جذريٍّ وكامل. وسيكون تحقيق هذا الهدف مقترناً لاحقاً من خلال المؤتمر بخطواتٍ سياسية واقتصادية (إعلان "دولة فلسطينية على مراحل" وتأمين مساعدات عاجلة للفلسطينيين) بحيث تكون هذه "المكاسب الفلسطينية" سبباً أيضاً لمطالبة كلّ العرب وغير العرب بإنهاء أيّ دعمٍ سياسي أو مالي لمن يرغبون باستمرار المقاومة المسلّحة ضدَّ إسرائيل.

ولن تجد إسرائيل ضرراً في هذه الصيغة، إذ أنَّ اختلاف التسمية من "سلطة فلسطينية" إلى "دولة فلسطينية" لن يغيّر الوقائع على الأرض، بل لربّما يزيد من مسؤولية السلطة الفلسطينية في قمع أيّة مقاومة ضدَّ إسرائيل، وإلا فإنَّ المفاوضات ستتوقف، وسيكون من حقّ إسرائيل التدخّل العسكري من جديد في المناطق المحتلة خارج "الدولة الفلسطينية"، تلك التي ستخضع لشيء من الحماية المعنوية الدولية عبر بعض المراقبين الدوليين على مشارف مناطقها.

وربما يكون الهدف جعل الدولة الفلسطينية مشروعاً قابلاً للتنفيذ في ظل اتحاد كونفدرالي مستقبلي يضم الأردن وفلسطين وإسرائيل معاً، خاصّةً في ظلَّ ما تحمله الساحة الفلسطينية من احتمالات يُراد بها استمرار السّلطة والصّراع عليها في آن واحد، وبما يؤدّي إلى القناعة بالحل الكونفدرالي مع الأردن وإسرائيل. أي أنَّ الدّعم الأميركي للسّلطة الفلسطينية لن يصل إلى حدّ تأهُّلِها لتكون دولة مستقلّة، ولن يقلّ عن ضرورة استمرارها لمنع قوى أخرى من السيطرة!.

ولقد كانت قضية الّلاجئين الفلسطينيين – وستبقى – هي الأساس في أي تسوية مستقبليّة للصّراع مع إسرائيل. فالحدود ومسألة القدس يمكن ترتيب الاتفاقات بشأنهما، لكنَّ العقبة الأساسيّة أمام مشروع واشنطن للدولة الفلسطينية هي قضية الّلاجئين الفلسطينيين. ولعلّه، وفق حسابات الإدارة الأميركية، أن يتطلّب قيام "دولة جديدة" في المنطقة سقوط دول أو حكومات قديمة.. أو تمهيد الطريق، ولو بعد ردحٍ من الزمن، لتوطين مئات الألوف من الفلسطينيين في العراق ولبنان وسوريا، خاصّةً في ظل سيادة الغرائز الطائفيّة والمذهبيّة الّتي قد تعتبر التوطين تصحيحاً لتوازنات ديمغرافيّة !.

إنَّ الرئيس الأميركي بوش يكرّر في تصريحاته الحديث عن الدولة الفلسطينية وعن مواصفاتها "الداخلية" من حيث انعدام الفساد الإداري والمالي، والبناء الديمقراطي للمؤسسات الفلسطينية، بل أيضاً من حيث المناهج التربوية، والتركيبة الاقتصادية والأمنية .. لكن لم نسمع الرئيس الأميركي يتحدَّث ولو لمرَّةٍ واحدة عن حدود الدولة الفلسطينية المطلوبة (التي يجب أن تكون الضفة كلّها وغزة)، ولا عن عاصمة الدولة الفلسطينية (التي يجب أن تكون القدس)، ولا عن سكانها (الأمر المرتبط بإلغاء المستوطنات وبحقّ عودة اللاجئين) ... فالرئيس الأميركي يتحدّث عمَّا هو من اختصاص الشعب الفلسطيني وحده ولا يتحدّث عمّا يقع في إطار مسؤولية أميركا والمجتمع الدولي في الضغط على إسرائيل لإنهاء احتلالها ولتأكيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلّة على كامل أرضه المحتلة!.