عشية وبعد وخلال اتفاق أوسلو تحولت منظمة التحرير الفلسطينية، الإطار الحاضن لفصائل المقاومة الفلسطينية، إلى مجرد ختم مطاطي للتمهيد وشرعنة الاتفاقيات والتنازلات والاشتراطات الإسرائيلية، وبهذا المعنى فإن عضوية الفصائل الوطنية وخاصة ما يسمى بـ" فصائل اليسار" الفلسطيني، والمتمثلة بالجبهتين الشعبية والديمقراطية، استخدمت كختم مطاطي لشرعنة هذه الاتفاقيات والتنازلات، وهي مدركة تماما أن هذه الهيئات لا تستدعى من سباتها إلا لتبصم على تنازلات تلو التنازلات مست جوهر المنظمة، ونعني تغيير الميثاق الوطني الفلسطيني.

ولا يشفع لليسار في هذا المقام القول لقد عارضنا تغيير وشطب بنود الميثاق، وصوتنا في المجلس الوطني ضد هذه التعديلات، وهم يعرفون أن من يعين ويعزل أعضاء المجلس الوطني ويشكله لم يكن بحاجة سوى إلى معارضتهما لكسب الشرعية، وقد يكون بحاجة إلى معارضتهما أكثر من أصابعهما المرفوعة والتي تتجاوز أو لا تتجاوز أصابع اليد في مثل هذه الهيئات.

دور "البصيم" الذي لعبه هذا اليسار طيلة العقد الأخير وأكثر، وغياب الدور المبادر والمحرك، بل والضمير الذي لعبه في السابق، جعله مجرد تابع ذليل يعيش على هامش حركة فتح بعد أن كان ندا لها في الساحة الفلسطينية يوم أن كان قادرا على كشف الغطاء التنظيمي الذي يتستر به التيار التفريطي في حركة فتح ورفع الشرعية الوطنية المتمثلة بـ م.ت.ف عنه، وتشكيل قطب فلسطيني رافض وازن ومقابل وهو ما ترجم بـ" جبهة الرفض" و بـ "جبهة الانقاذ" في مراحل سابقة.

تذيل اليسار الفلسطيني المذكور أوصله كما نعرف جميعا إلى الوضع الذي وصله اليوم، وعوضا عن أن يتحول إلى القوة الأولى أصبح القوة الأخيرة بعد احتلال حركة حماس، التي كانت واضحة حاسمة وقاطعة في موقفها من أوسلو واللجوء إلى خيار المقاومة، هذا الموقع.

اليسار "ضاع بين الرجلين "كما يقولون في غياب الموقف الواضح والحاسم فهو انطبق عليه المثل " نفسي فيه و... عليه" بينما كان الفصيلان الرئيسيان اليوم فتح وحماس، واضحين وحاسمين الأولى استفادت من أوسلو وزادت قوتها، والثانية استفادت من مناهضة أوسلو وضاعفت قوتها أضعاف أضعاف، وعندما أدركت أن استخدام أدوات أوسلو المتمثلة بهيئات السلطة تخدمها لم تتردد في استخدامها ودخول الانتخابات التشريعية والفوز فيها، بينما ظل اليسار ينتظر أن تشرعن له حماس دخول هذه الهيئات بدخولها هي، أي انه لم يفطن إلى قواعد اللعبة الجديدة ويستخدمها أولا، علما أنه شرعن جميع الاتفاقيات والتنازلات وبذلك كان جزءاً عضويا من عملية أوسلو، فكان بذلك مثل شاهد الزور لم يطله من العملية سوى "سواد الوجه" كما يقولون.

أما لماذا نوجز هذا التاريخ القصير، فلأننا أولا أحوج ما نكون إلى هذا اليسار في هذه المرحلة من الاستقطاب، ولأننا نرى أن هذا التذيل يستمر ويتواصل في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ القضية الفلسطينية، فمن يستطيع أن يشير إلى عناصر موقف مستقل يمتاز عن موقف فتح، وقيادة سلطة محمود عباس مما جرى في غزة، ومن حالة الانقسام التي يسعى الأخير إلى تأييدها، لم نر هذا الموقف المتميز بل رأينا عوضا عن ذلك تبعية مطلقة وغير مبررة لنهج عباس وزمرته التي نجحت بتجييش وشحن حركة فتح من يسارها إلى يمينها وتمرير قرار حل كتائب الأقصى تحت وطأة العصبية القبلية التي ما زالت تعشش في نفوسنا، واضعة معادلة "كرامة" و"شرف" فتح "المهدورة في الواجهة للتغطية على قيادات أجهزة أمنية فاسدة وبعض رموز سياسية أكثر فسادا، علما أننا لا نبرر ما قامت به حماس.

لقد رأيناهم، بعض رموز هذا اليسار، يستمعون ويصمتون صمت أهل القبور على الشتائم التي وجهها محمود عباس لحركة حماس ورأينا الأخير في مشهد لم نعهده فيه من قبل نسرا كاسرا أمام حماس، وهو الذي وصفه شارون " بالطير المنتوف الريش" في إشارة إلى ضعفه ولتبرير تملصه من التفاوض معه والتقدم في العملية السياسية، ولكن في نفس الخطاب الصقري كان يعود حمامة سلام عندما يتعلق الموضوع بإسرائيل وأمريكا.

إن أي صحفي مبتدئ يقرأ خطاب عباس أمام المجلس المركزي يخرج بعنوان رئيسي مفاده "حرب على حماس وحوار مع إسرائيل" ولا نريد أن نقول تحالف مع إسرائيل وأمريكا في الحرب المشتركة ضد حماس.

لقد فضح الرئيس جورج بوش "الطابق" عندما وضع ما يحدث في أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين في خانة واحدة "حرب الأخيار ضد الأشرار"، بمعنى أنه وضع عباس في صف كرزاي وحماس في صف القاعدة في تقسيمه للمنطقة بين الأخيار والأشرار، وطبعا إسرائيل تقع في محور الأخيار إن لم تكن على رأسه. صمت رموز اليسار أو أعضاؤه في المجلس المركزي وصمتوا قبل المجلس المركزي وهم يعرفون أن عقد المجلس المركزي أو أي هيئة من هيئات منظمة التحرير ومنحها صلاحيات فوق العادة هو لتمرير وشرعنة الخطوات الانقسامية على الساحة الفلسطينية، وغيرها من الخطوات التي اتخذها الرئيس عباس أو سيتخذها، والتي بمحصلتها ستنقل إسرائيل من معسكر الأعداء إلى معسكر الأصدقاء وتحشر حماس في معسكر الأعداء إن لم تكن العدو الأول والأخير لمنظمة التحرير الفلسطينية.

على اليسار، وعلى رأسه الجبهتان الشعبية والديمقراطية، كشف الغطاء الوطني والتنظيمي المتمثل بمنظمة التحرير الفلسطينية عن عباس وجماعته فورا، والخروج من اجتماعات المجلس المركزي الذي يسعى إلى شرعنة خطوات غير دستورية وغير وطنية، والإعلان عن موقف واضح وقاطع وحاسم بإدانة جميع الخطوات الانقلابية التي اتخذها محمود عباس على الشرعية الفلسطينية بعد أن أدانا خطوات حماس السابقة، وإلا سيقامران بتاريخهما المشرف مقابل بعض الرشاوى مثل إطلاق سراح ملوح وإعادة حواتمة لإعطاء المزيد من الشرعية لأبو مازن.

عليهما القول وبصوت عال إن منظمة التحرير انطلقت وعمدت بتضحيات آلاف وعشرات آلاف الشهداء والأسرى والجرحى لتحرير فلسطين وليس للتحالف مع إسرائيل من اجل تحرير غزة من حماس، وأن الطريق لحل الأزمة الفلسطينية هو بالمباشرة بحوار وطني شامل بدون شروط واشتراطات وهذه فرصتهما وفرصة اليسار الفلسطيني لاستعادة دوره ومكانته ومصداقيته التي فقدها، دون الانتظار أن يأتي هذا التحرك من داخل حركة فتح ليتذيل له، لأننا على يقين أن آلاف الكوادر الوطنية في حركة فتح لن تقبل أن تتحول هذه الحركة المناضلة، التي فجرت الثورة الفلسطينية، إلى جيش لحد جديد، ولا أن يتحول زعيمها إلى كرزاي كما يريد جورج بوش وإيهود اولمرط.