توافد القادة اللبنانيون إلى «سان كلو» ضاحية باريس الجميلة لحل أزمة السلطة المستعصية في لبنان (التي يراها البعض أزمة نظام وليست أزمة سلطة)، فاجتمع اثنان وثلاثون ممثلاً للقوى السياسية اللبنانية (التكتلات السياسية) والقوى المجتمعية (ممثلو المجتمع المدني) طوال يومين حول طاولة حوار برعاية فرنسية، بأمل تفكيك العُقد التي لم يستطيعوا حلها في بلدهم والتي عجزوا وعجز معهم الأمين العام لجامعة الدول العربية وموفدو الجامعة من وزراء الخارجية العرب عن تحقيق هذا الهدف.

وكانت نتيجة الاجتماعات متواضعة فلم يتوصل المجتمعون إلى اتفاق واضح أو على أولويات يقبلها الجميع، ولم يقل أحد لا منهم ولا من غيرهم بعد انتهاء الاجتماعات أنهم حققوا شيئاً يتعلق بجوهر المشكلة، وكل ما صرح به أكثرهم تفاؤلاً أن نتائج الحوار حققت نصف نجاح ونصف فشل. وحاول الفرنسيون تغطية هذه النتائج المتواضعة بالإعلان عن قدوم موفدهم السفير «جان كلود كوسران» إلى بيروت الذي كان قد هيأ اللقاء بعد جولات مكوكية على لبنان وعلى دول المنطقة وبعد مقابلات مع جميع قادة الكتل اللبنانية، وزيارة وزير خارجيتهم (كوشنير) قبل نهاية الشهر الحالي إلى بيروت في محاولة لمقابلة قادة الصف الأول واستئناف الحوار الذي لم ينته في باريس إلى شيء جدي.

إلا أنه ورغم هذه النتائج الباهتة فقد توصلت طاولة الحوار الباريسية إلى تأكيد أمرين لهما بعض الأهمية، الأول هو تحول الدبلوماسية الفرنسية من شبه طرف في الصراعات الداخلية اللبنانية أيام الرئيس شيراك إلى وسيط يقف على مسافة واحدة من مختلف القوى والتكتلات السياسية، حسب تأكيد هذه الدبلوماسية مؤخراً. والثاني هو تخفيف الاحتقان لدى هذه القوى الذي كاد أن يصل إلى الانفجار، وترطيب الأجواء الجافة التي ربما كانت تنذر بالحرائق. وما عدا ذلك فقد عاد المتحاورون إلى بيروت كما ذهبوا (صفر اليدين) دون أن يتوصلوا إلى أية توافقات جدية وموثوقة تهيئ الظروف للوصول إلى الحل المنشود وتطبيع الأوضاع في البلاد.

لم يفترض أحد من المراقبين اللبنانيين وغير اللبنانيين ولا من المتحاورين أنفسهم أنهم سيتوصلون في فرنسا إلى ما عجزوا عن الوصول إليه في لبنان، ذلك لأن الشأن اللبناني (وربما الأزمة اللبنانية) أصبحت شأناً إقليمياً ودولياً مع تلونات لبنانية وليس العكس، وإن حلها بالتالي يقع خارج لبنان وخارج إرادة القوى السياسية والاجتماعية اللبنانية، وإن صحت هذه الفرضية فإن الحل إنما هو بيد دول إقليمية وأخرى عالمية، وقد أصبح جزءاً من حل أزمات المنطقة التي لم يعد من السهل تجزئة مشاكلها بعد أن بلغ الصراع أشده بين الأطراف الإقليمية والدولية ذات العلاقة، إلا إذا ترأّف أهل الحل والعقد بالشعب اللبناني وعزلوا القضية اللبنانية عن قضايا المنطقة الأخرى، والرأفة لا تتواءم غالبا مع المصالح.

لقد أصبح التساؤل مشروعاً حول إمكانية حل المشكلة اللبنانية بدون موافقة سوريا وإيران والسعودية ومصر والولايات المتحدة وفرنسا والفاتيكان وربما غيرها من الدول، وإذا كان ذلك كذلك فهل هناك إمكانية لاتفاق هذه الأطراف جميعها على حل هادئ وسلمي وعادل للخلافات اللبنانية؟ وهل تستطيع القوى السياسية (والاجتماعية) اللبنانية أن تتمرد على حلفائها خارج لبنان وتتخذ قرارها باستقلالية؟ يبدو أن الجواب على هذه التساؤلات هو بالنفي. فكلما حاول اللبنانيون الاتفاق برز تناقض أو خلاف يتبناه طرف لبناني استجابة لرغبة الحليف غير اللبناني لأنه في الواقع صاحب القرار، وما أكثر الحلفاء وما أكثر مطالبهم وما أصعب تحقيق رغباتهم، وبالتالي فكلما يوشك اللبنانيون على الوصول إلى حل يتراجعون ويعودون إلى نقطة الصفر.

توهمنا القوى السياسية اللبنانية وتوهم نفسها أيضاً بأن خلافها هو على الأولويات، مثل تشكيل حكومة وحدة وطنية أولاً أو التوافق على الرئيس العتيد المقبل أو على شرعية الحكومة أو شرعية الرئيس الحالي أو قانون الانتخابات أو غير ذلك، وحقيقة الأمر أن الخلاف لا يقع هنا وإنما في مطالب أخرى مخفية أو مسكوت عنها تواطأ عليها الجميع، منها الرغبة لدى بعض الأطراف الخارجية واللبنانية في إعادة النظر ببنية النظام اللبناني برمته وتعديل اتفاق الطائف (مع أن الجميع يصرون ظاهرياً على التمسك به).

وبالتالي رسم ملامح لبنان آخر غير هذا اللبنان، والبحث مجدداً فيما إذا كان جزءاً من محيطه العربي أو متماهياً مع الشرق الأوسط الجديد المقبل، أو أنه خارج هذا وذاك كياناً لبنانياً صرفاً حيادياً (سيداً مستقلاً) مما يؤهله للتخلي عن المقاومة والهوية وغيرهما، أم سيكون رأس حربة لقوى خارجية (إقليمية ودولية) تستخدمه متى تشاء لخدمة مصالحها في الصراعات الإقليمية والدولية القائمة الباردة والساخنة، وكل من هذه الخيارات له صفاته وتبعاته وتتبناه قوى إقليمية ودولية ليست قليلة الشأن، كما تتبناه بالضرورة (وربما بالتبعية) قوى لبنانية سواء أعلنت ذلك صراحة أم غلفته بمطالب تبدو محلية وذات علاقة بالصراعات الداخلية.

لهذا وذاك لم يكن بإمكان ندوة الحوار في باريس أن تصل إلى الحل، أو بداية الحل طالما أن القوى الإقليمية والدولية المتصارعة لم تلغ تبايناتها وخلافاتها حول حاضر لبنان ومستقبله، أو تتوصل إلى اتفاق شامل على حل أزمات المنطقة على الأقل أو عزل المشكلة اللبنانية عن هذه الأزمات، ولذلك فإن المحاولة الفرنسية وكل المحاولات المشابهة لن تأتي بالحل المطلوب والخبر السعيد طالما لم تتفق القوى الحقيقية المتصارعة على حل ما، وإلى أن يتحقق ذلك فلن تكون هذه المحاولات سوى كسب للوقت ريثما يتم الاتفاق.

عبر عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية عن عدم سعادته من المبادرة الفرنسية، لأن الجامعة العربية حاولت حل المشكلة ومازالت تحاول ولم تتخل أو تنسحب، فلماذا تقحم الدبلوماسية الفرنسية نفسها بهذا الشأن قبل أن تعلن الجامعة العربية إفلاسها؟ وصرح مسؤول في دولة إقليمية أن الحل لا يتحقق إلا بإعادة النظر باتفاق الطائف وإقرار المثالثة في لبنان (ثلث لكل من المسيحيين والشيعة والسنة)، وليست مناصفة بين المسلمين والمسيحيين كما هو الحال الآن.

وأعربت دولة أخرى عن أملها أن تتوصل مع دولة إقليمية إلى إيجاد حل، وأكدت دبلوماسية الولايات المتحدة حذرها من استئثار فرنسا بالمبادرة، وصرحت دول أخرى بآراء متناقضة، وهذه الدول جميعها ذات نفوذ فعلي في لبنان يتعذر معه الوصول إلى حل دون رضاها، فكيف يكون للبنانيين حق اتخاذ القرار المستقل الناتج عن قناعتهم ودون موافقة هذه الدول؟

إن الشأن اللبناني (إن لم تكن الأزمة اللبنانية) هو شأن مدوّل، ويتوقف خلاص لبنان على رضا دول متناقضة الأهداف والمصالح والوسائل، وهذه الدول هي الوحيدة القادرة على (إقناع) حلفائها بالموافقة أو الرفض على هذا الاتفاق أو ذاك، ويبدو أن القوى اللبنانية لم تعد تملك «أن تريد او لا تريد»، ومن يعتقد غير ذلك لابد أن ينتظر دهراً حتى يراها تصل إلى «المصالحة» وتقلع شوكها بيديها.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)