بخلاف خطبه السابقة، حرص الرئيس بشار الاسد على اختصار كلمته امام مجلس الشعب السوري، مع وعد قاطع بالتزام الثوابت الوطنية خلال فترة ولايته الثانية الممتدة حتى 2014.
وكان لافتا انه اعطى الشأن الداخلي كل جهود المرحلة المقبلة، ما عدا مسألة الجولان التي خصها بجزء كبير من خطابه. ذلك أنه دعا الحكومة الاسرائيلية الى تقديم ضمانات تؤكد الانسحاب من كامل الاراضي المحتلة، مذكرًا بـ"وديعة رابين" التي يعتبر احياءها شرطا لاستئناف مفاوضات السلام.
وتعتبر "وديعة رابين" قاعدة ثابتة لكل المفاوضات السابقة، لكونها تمثل في رأي سوريا، اهم المرتكزات الوطنية لمفهوم السلام، وتعود اسباب تكوينها الى نقاش اجراه اسحق رابين مع مجموعة من الكتاب والصحافيين دعاهم الى منزله بهدف الاستماع الى آرائهم بشأن موضوع السلام مع دمشق.
وكان بين المدعوين الكاتب المعروف امنون شاموس الذي خصه رابين باهتمام استثنائي بسبب شهرته الادبية من جهة، وبسبب نفوذه الواسع لدى مستوطني الجولان، من جهة اخرى.
وبعد ان اصغى رابين الى مختلف الآراء سأل شاموس عن تصوره لأفضل صيغة يمكن ان تنهي حرب الاستنزاف على الحدود الشمالية مع لبنان. واجابه على الفور: لا هدوء على الجبهة اللبنانية اذا لم تنسحب قواتنا من الجنوب، ولا انسحاب مجديا من لبنان خارج التنسيق مع سوريا. ولن يكون هناك اتفاق مع سوريا قبل الانسحاب من كامل مرتفعات الجولان!
وفوجىء رابين بجواب لم يكن يتوقعه من شاموس الذي هاجر من حلب وهو في التاسعة من عمره، ثم التحق بصفوف "البالماخ" عندما بلغ سن الرشد.
وعاد اسحق رابين ليطرح عليه سؤالا محرجاً خيّره فيه بين البقاء في الجولان او النزوح عن المنزل الذي بناه في كيبوتز "معيان باروخ"!
وشرح امنون وجهة نظره كمستوطن فقال: "كنت احد مؤسسي كيبوتز "معيان باروخ" الذي يعتبر من المواقع الامامية على الطرف الشمالي من اسرائيل. ومنذ 15 سنة بدأت اشعر بالندم على القرار الذي اتخذته باجبار اطفالي على العيش في الملاجئ. انا شخصيا اتعاطف مع اكثر من 17 الف مستوطن شجعهم "حزب العمل" على بناء مستوطنات فوق هضبة الجولان. ولكنني اليوم مقتنع بأن اخلاء هذا الموقع المحتل هو مفتاح عملية السلام مع دمشق. انا من مواليد سوريا، لذلك يمكنني ان افهم كيف يفكر السوريون اكثر من اي اديب او سياسي او صحافي هاجر من روسيا او البلقان او الولايات المتحدة".
وبعد شرح مستفيض للظروف القاسية التي يعيشها سكان المنطقة الشمالية، انتقل شاموس بتحليله الى الجانب المتعلق بموضوع السلام، فقال: "انني اتحدث الآن الى رجل عسكري قاد عملية احتلال سيناء والضفة الغربية والجولان. ومن المفيد الاعتراف بأن حافظ الاسد ادخل عامل الاستقرار الى بلاده بعد سلسلة انقلابات عسكرية. ولكن خسارة الجولان تمثل في نظره، خسارة كبيرة من حقبة امضاها في بناء الدولة. وهو عازم على محو هذه النقطة من تاريخ عمله السياسي، وانما ليس بأي ثمن. وهذا ما يفسر اقدامه على الاشتراك في حرب 1973".
اعترف اسحق رابين بأنه خرج من ذلك اللقاء وهو اكثر اقتناعا بأن، مرتفعات الجولان يجب ان تدفع كثمن للسلام مع سوريا، تماما كما دفعت سيناء ثمنا للسلام مع مصر.
ثم جاء من بعده ايهود باراك ليحمل هذه "الوديعة" ويقرر ان يتجاوز الاعتبارات الامنية في سبيل تحقيق مشروع السلام. وعندما سأله الصحافيون ما اذا كان يعتبر الانسحاب من هضبة الجولان تنازلا يعرض امن الدولة العبرية للخطر، اجاب بأن السلام في نظره اهم من الارض باعتبار انه الضامن الوحيد للأمن والاستقرار.
كرر ايهود باراك هذه اللازمة قبل اعلان تأجيل الجولة الثالثة من المفاوضات بسبب إصرار دمشق على المطالبة بتعهد خطي يقضي بانسحاب شامل من الجولان حتى خطوط الرابع من حزيران 1967، ويبدو ان دمشق اكتشفت بعد ثمانية ايام من المفاوضات المكثفة في منتجع "شبردز تاون" ان سياسة "الغموض البنّاء" التي اعتمدتها الوزيرة الاميركية مادلين اولبرايت كمنطلق لاستئناف الحوار، قد زادت المشكلة غموضا. والسبب انها نجحت في اقناع الفريقين بضرروة تجاوز "وديعة رابين" والانطلاق بالمفاوضات من حيث توقفت في شباط 1996. ولكنها لم تنجح في جسر الهوة القائمة بين موقف باراك المعترف بمبدأ الانسحاب من الجولان... وموقف الشرع المطالب بتعهد خطي بالانسحاب الى حدود 1967. وتحاشياً لتعقيدات سياسة الغموض، طالبت دمشق بضرورة وضع كل الأوراق على الطاولة كمقدمة للدخول في تفاصيل المحادثات. ورفض باراك التقيد بهذا الشرط معتبراً انه بمثابة حكم مسبق على نتائج المفاوضات. وقال انه يعتمد في الحوار مبدأ رابين وخلاصته: ان عمق الانسحاب الاسرائيلي يخضع لعمق السلام السوري.
خلال مرحلة التجاذب تدخل الرئيس بيل كلينتون ليطالب باستئناف الحوار لأن الخلافات في نظره لا تمثل أكثر من عشرة في المئة. ففي حين يضع باراك بين الأولويات المسائل المتعلقة بالأمن وتطبيع العلاقات، يشدد فاروق الشرع على ضرورة اصدار تعهد خطي بالانسحاب الى حدود الرابع من حزيران 1967.
مع مساعي التوفيق عام 1998، حاول الوسيط كلينتون تجنب المزالق الخطرة لدى الفريقين، بدليل انه سجل في الوثيقة نقاط الخلاف والاتفاق. وبين هذه النقاط ما يرفضه السوريون من كلام عن التطبيع والسلام الحار باعتبار ان الانفتاح في نظرهم لا يزيد عن سلام عادي بين دولتين متجاورتين، وان الانفتاح يحتاج الى فترة طويلة لالغاء مشاعر العداء بعد نصف قرن من الحروب.
بعد محاولات متكررة نجح كلينتون في الحصول على تعهد خطي من باراك. ولكن رئيس وزراء اسرائيل اشترط تبديد مخاوفه من اقتراب السوريين الى الخط الذي يلامس بحيرة طبريا ونهر الاردن. وبما ان العودة الى حدود الرابع من حزيران (1967) تعطي سوريا كامل حقوق الدولة المتاخمة، فان الوسيط الاميركي عرض خيارات عدة لحل مشكلة المياه: اولاً - اعتبار المسافة التي لا تزيد عن 19 كيلومتراً منطقة منزوعة السلاح تقام فوقها مشاريع صناعية مشتركة. ثانياً - تطبيق القانون الاسرائيلي على مياه بحيرة طبريا ونهر الاردن، الى ان يتفق الجانبان على استخدام مشترك للمياه. ثالثاً - تعوض تركيا عن كمية المياه المستعملة من قبل اسرائيل بزيادة كمية المياه في نهر الفرات. رابعاً - يجب ألا تتقدم القوات السورية الى ما وراء الحدود على الشاطئ الشمالي الشرقي لبحيرة طبريا والضفة الشرقية لنهر الاردن، في حال انسحبت اسرائيل من هذه المواقع.
ورفض المفاوض السوري في حينه الشروط الاربعة، لأنه اعتبرها مشكلة مفتعلة لتخريب مشروع، تماماً مثلما افتعلت اسرائيل مشكلة طابا لتأخير عملية السلام مع مصر.
في مرحلة لاحقة كرر فاروق الشرع امام مبعوث الاتحاد الاوروبي ميغيل موراتينوس، موقف بلاده، مؤكداً له ان قرار الانسحاب من الجولان يعتبر "وديعة" لدى الولايات المتحدة. وكانت تلك المرة الاولى التي يستخدم فيها وزير خارجية سوريا هذا الوصف بهدف الزام واشنطن بشرط دفع رابين حياته ثمناً لتحقيقه. وقد حاولت مادلين اولبرايت التنصل من التزامات بلادها، مدعية ان التعهد اصبح لاغياً في نظر القانون الدولي. وبررت الالغاء بالادعاء أن سلفها الوزير وارن كريستوفر نقل رسالة سرية في 18 ايلول 1997 الى نتنياهو يعتبر فيها تعهد اميركا لاغياً. وردت دمشق على هذه المزاعم باصدار بيان يؤكد فيه كريستوفر للرئيس حافظ الأسد موافقة اسحق رابين على الانسحاب من كل مرتفعات الجولان.
بعد مرور سبع سنوات تقريباً على توقف عملية السلام بين سوريا واسرائيل، علق بشار الاسد على دعوة اولمرت للتفاوض، بالقول انه يريد ضمانات كالتي اعطاها اسحق رابين لوالده. وكان بهذا التحدي يحاول استشراف الموقف الاميركي الجديد الذي ينبئ عن ضخامة الأزمة التي يعانيها جورج بوش في العراق. ويتردد في اسرائيل ان بوش اوحى الى حليفه اولمرت بأن يمد له حبل النجاة من طريق دمشق لعل تحريك مفاوضات الجولان يعينه على انسحاب مشرف من العراق.
ويبدو ان الرئيس الاسد قد اكتشف دوافع الحيلة السياسية التي تؤديها اسرائيل، بدليل انه رفض اعطاء جوائز ترضية للولايات المتحدة، مطالباً بفتح حوار مباشر بينها وبين بلاده. وهذا ما يفسر خلو كلمته من اي ذكر للأزمة العالقة بين سوريا ولبنان!

مصادر
النهار (لبنان)